تسمى مصر أم الدنيا و أرض الكنانة و يرى الدكتور فاضل الربيعي أن الهكسوس الذين غزوا مصر في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد كانوا قبائل عربية تتزعمها قبيلة (مضر) التي أعطت اسم أحد فخائذها (كنانة) لهذا البلد و غير مستبعد كذلك بحسب الربيعي أن يكون اسم مضر قد تم تحوير نطقه ليصبح (مصر). في هذه البلد كانت بذور النهضة العربية قد بدأت بالنمو في بدايات القرن العشرين فأنتجت علماء و مفكرين و فنانين و أدباء كثيرين قبل أن تحدث ردة على تلك النهضة بسبب التقلبات السياسية في المنطقة.
المحطة الأولى
في الساعة الثالثة فجراً بمحطة حافلات الإسكندرية وجدت نفسي أشرب شاياً مع ثلاثة أشخاص أحدهم عرفته منذ ست ساعات و سوف يصبح صديقاً مقرباً جداً، أما الآخران فلم أعرفهما إلا منذ ساعة حين ركبنا سيارة الأجرة من المطار، إنها الإسكندرية التي كانت يوماً منارة للعلم و المعرفة في العهد الروماني و كانت مكتبتها هي الأشهر على مستوى العالم قبل أن تأتي عليها نيران التعصب العمياء، و قد خلدت السينما تلك اللحظة في فيلم Agora الذي يعرض لقصة الفيلسوفة الإسكندرانية الشهيرة هيباتيا، الإسكندرية عروس البحر المتوسط ذات المناخ و الجو الساحر الذي يجذب إليه الآلاف من السواح سوف لن أراها في وضح النهار إلا بعد أيام.
المحطة الثانية
عند النزول إلى مطار الإسكندرية وجدنا تعاملاً على مستوى عالٍ من قبل موظفي المطار و الجوازات، و هو ما تأكد لاحقا من أن شعب مصر يمتاز بالشهامة و الطيبة، أما في القاهرة المزدحمة بملايين الناس و بسبب عدم جودة الأوضاع الاقتصادية فمن الطبيعي جداً أن تحدث أحياناً بعض المتاعب خاصة بين المارة و السائقين. يتميز المصريون - إلى جانب الظرف و حس الفكاهة- بالطيبة الشديدة و الشهامة ، و لا يقلل من هذه الحقيقة ما قد يصادفه الزائر هنا أو هناك من بعض الأشخاص الانتهازيين فهذا شيء وارد في دولة مليونية تضم ثلث عدد سكان الوطن العربي.
إذا سألت أي سائح لمصر عن أهم معلم سياحي يود زيارته فسيجيبك بدون تردد بأنه الأهرامات و أبو الهول، و لذلك فقد كانا أولى وجهاتنا السياحية و حين نزلنا في منطقة الجيزة كان علينا أن نمشي صاعدين الهضبة و سرعان ما استوقفنا أصحاب الحنطور و عرضوا علينا جولة بين الأهرامات، بعد مساومة و أخذ و رد تمكن قائد رحلتنا بفضل لهجته المصرية التي لا يرقى إليها الشك من أن يوفر لنا الجولة بحنطورين لستة أشخاص مقابل ١٥٠ جنيه لكل منهما، و الحنطور هو الاسم المصري للعربة التي يجرها الخيل، بعد حصولنا على التذاكر و عبورنا للبوابة الأمنية كان الحاج عوض و الحاج طلعت - قائدا الحنطور- بانتظارنا بداخل السور المحيط بالمنطقة السياحية، و كانت السحب فوقنا قد بدأت برش بعض قطرات المطر على رؤوسنا و نحن نمر بجانب الهرم الأكبر خوفو ثم بأخيه هرم خفرع و أخيراً بهرم منقرع - و هي أسماء الملوك الفراعنة الذين قاموا ببناءها- و بسبب الصورة الخيالية التي انغرست في أذهاننا عن عظمة و مهابة الأهرامات فقد أحسست بشيء بسيط من خيبة الأمل حيث كان ارتفاع الأهرامات أقل مما تخيلت، بعد أخذنا للصور و إطلالنا على الأهرامات الأربعة الأصغر من على بعد، استئنفنا المسير باتجاه أبي الهول بأنفه المجدوعة، و قد كان موقعه يحتم علينا نزول منحدر حاد بالحنطورين الذين يجراهما خيلان مسكينان صارعا كثيراً لأجل التغلب على قوة الجاذبية نزولاً ثم صعوداً مرة أخرى، بعدها توجهنا لدخول الهرم الأكبر حيث صعدنا الطريق الصاعد بزاوية حادة في جوفه قبل أن نصل إلى حجرة الدفن التي تشهد على عظمة هذه الحضارة الضاربة في القدم.
المحطة الثالثة
في قلب القاهرة و تحديداً في ميدان طلعت حرب سوف تجد دار الشروق مطلة على الميدان الذي يتوسطه تمثال الرجل الأول في تاريخ الاقتصاد المصري (طلعت حرب) و على الجهة المقابلة سوف تطالعك مكتبة مدبولي و كلتاهما تداعبان خيال القراء خاصة و أن أسعار الكتب لا يمكن أن تخطر على بال قارئ تعود على أسعار معرض مسقط للكتاب، سوف تجد الكتب تباع بخُمس قيمتها التي تعودت عليها و سوف تتمنى لو كنت أضفتَ الوزن الأقصى للشحن في طائرة العودة، أما حين تزور سور الأزبكية حيث تباع الكتب المنسوخة و المقلدة جنباً إلى جنب مع الكتب المستعملة و القديمة النادرة فسوف تشتري كثيراً من الكتب المقلدة متجاهلاً وخزاً صغيراً في جدران الضمير و معللاً النفس بأن العلم و المعرفة ليسا سلعاً تباع و تشترى و أنهما ملك للبشر جميعاً.
و بما أن حديثنا عن ميدان طلعت حرب فلا بد أن نذكر ميداناً آخر لا يقل شهرة هو ميدان التحرير المشهور ليس فقط باحتضانه للأحداث و الثورات السياسية بل و بوجود المتحف المصري الذي لا بد من زيارته لكل من يزور مصر لكي يرى عظمة الحضارة الفرعونية بأم عينيه.
المحطة الرابعة
تغلق قلعة صلاح الدين في تمام الساعة الثالثة ظهراً - أو هكذا قيل لنا- لذلك فقد اصطررنا أن نعود على أدراجنا حين كنا على وشك دخولها قبل الإغلاق بساعة و قررنا إعادة الكرة في اليوم التالي، إن القلعة التي بناها الناصر صلاح دين تحتوي على العديد من المزارات و يجب على السائح أن يقصدها في بداية الصباح حتى يتسنى له زيارة أغلب ما فيها، تقع القلعة بالقرب من جبل المقطم أشهر و أرقى المناطق السكنية بالقاهرة و قد بناها القائد المسلم الشهير صلاح الدين الأيوبي محرر القدس في معركة حطين، الجدير بالذكر أن الأيوبي من أصول كردية و ليس عربياً و أنه كان رجل سياسة تحكم أفعاله المصالح و السعي إلى السيطرة، ولكن حين تم استعادته كرمز قومي في القرن العشرين باعتباره فاتحاً و محرراً للقدس تم التغاضي عن كثير من أفعاله التي لا تنسجم و الصورة البطولية التي كان العرب بحاجة إليها آنذاك في ظل الاستعمار و الغزو الصهيوني، و تم اعتباره رمزاِ مقدساً من المستبعد بحقه الخطأ و قد أوضح ذلك الدكتور يوسف زيدان في كتابه متاهات الوهم لمن أراد أن يروي ظمأه المعرفي بعيداً عن المثاليات.
أشهر المعالم التي تحتوي عليها قلعة صلاح الدين هي المتحف الحربي الذي تعرض فيه أنواع الدبابات و المعدات العسكرية و المقاتلات و غيرها، و سجن القلعة الذي سجن فيه المشاهير بدءا من ابن تيمية و انتهاء بالسادات و الشيخ عبدالحميد كشك، و مسجد السيدة سكينة الضخم و المهيب، إضافة للأبراج و القصور الكثيرة.
المحطة الخامسة
أما خان الخليلي فقد خلده نجيب محفوظ في روايته الشهيرة التي تجري أحداثها في هذا الحي الشهير بمنطقة الحسين في فترة تعرض المدينة للقصف بالحرب العالمية الثانية، و بالمقابل فقد رد خان الخليلي الاعتبار لنجيب محفوظ عن طريق المطعم الشهير الذي سمي باسمه و يعتبر مزاراً سياحياً لا يوجد فيه متسع لمن يأتي متأخراً و تقام فيه أمسيات الفن و الطرب، و لا يبعد كثيراً عنه مقهى الفيشاوي الشهير و الذي افتتح في القرن الثامن العشر و قصده عشرات المشاهير العالميين عبر التاريخ، و الذي اشتهر بأن نجيب محفوظ كان يكتب فيه كثيراً من رواياته، و في خان الخليلي يمكن للزائر شراء الكثير من المقتنيات و التحف و المشغولات المصرية و الهدايا.
المحطة السادسة
في حي مصر القديمة نزلنا بالقرب من مسجد عمرو بن العاص ثم مشينا حتى وصلنا إلى المدخل النازل للأسفل باتجاه دير مار جرجس للراهبات حيث الممر الطويل الذي يعرض على جانبيه كتب و هدايا و تذكارات للبيع، ثم يأتي مدخل الدير على الجدار الأيسر و حين وصلنا إلى داخل الدير كان أول ما لفت نظرنا لوحة جدارية بعنوان (الكنيسة المنصورة) حُشِدت فيها رسومات لمئات الشخصيات الكنسية و بالداخل تشرفنا بلقاء راهب مهيب بلباسه الأسود و لحيته الضخمة و يبدو أنه المسؤول عن الدير، و قد تفضل مشكوراً بأن رحب بنا ثم شرح لنا قصة تعذيب القديس مار جرجس و صبره على الدين و رأينا السلسلة التي يقال أنه كان مربوطاً بها في أثناء تعذيبه و التي تعرض للزائرين بجانب لوحة جدارية للحدث الأليم.
بالقرب من الدير توجد كنائس و مزارات قبطية أخرى و عند الخروج عائداً إلى الممر ثم صعود السلالم باتجاه الشارع الرئيسي سوف يمكنك مواصلة السير باتجاه الكثير من المعالم التاريخية الدينية بمصر القديمة و قد قمنا بزيارة واحد من أهمها ألا و هو المتحف القِبطي بعمارته المهيبة والطابقين الذين عرضت فيهما التحف و التماثيل و الرسومات المتقنة و التي تؤرخ لمراحل الديانة القبطية المبكرة، و أجد هنا من الجيد أن نذكر بأن المسيحية القبطية تختلف عن المسيحية الرومانية أو الكاثوليكية السائدة في أوروبا، و منبع الاختلاف يعود إلى الصراعات العقائدية و الجدالات بين ممثليها في مهد تكون الديانتين فيما عرف باسم المجمعات الكنسية و المسكونية و من أهم العقائد المختلف عليها بين الديانتين عقيدة طبيعة المسيح حيث يثبت الكاثوليك للمسيح طبيعتين إنسانية و إلهية بينما يثبت الأقباط له طبيعة واحدة فقط هي الطبيعة الإلهية.
المحطة السابعة
كوبري قصر النيل هو ميدان صغير على مدخل جسر كوبري النيل يتميز بتماثيل الأسود على زواياه الأربعة، يقع مرفأ المراكب السياحية على مرمى حجر منه و في أثناء انتظارنا لوصول الرفاق عرّجتُ على بائع كتب تحت شجرة كبيرة في طرف الميدان، و أخذت منه رقم هاتفه لعلمي بعدم وجود متسع لمزيد من الكتب في حقائبي و قد تواصلت معه لاحقاً و اشتريت منه كتاب الثابت و المتحول لأدونيس و قد قام صديقي الذي نظم الرحلة باستلامه و كان لا يزال وقتها في مصر.
وجهتنا كانت قناطر الخيرية التابعة لمحافظة القليوبية و قد قررنا أن نتوجه إليها عن طريق النهر - أدركنا لاحقاً أن سيارات الأجرة كانت ستوفر علينا ساعات يمكن أن نقضيها في مكان آخر- فعبرنا جسر قصر النيل طولاً حتى النهاية الأخرى ثم نزلنا لنسير بمحاذاة النيل و من هناك أخذنا سيارة الأجرة باتجاه مرفأ القوارب، استغرقت الرحلة ما يربو على الساعة و في طريق العودة امتدت الفترة لضعف ذلك و هو ما أدى إلى انتهاء يومنا بدون أن نزور مكاناً آخر، عند الوصول إلى مرسى القوارب كان في استقبالنا أصحاب الحناطير حيث عرضوا علينا جولة بالعربات مقابل مبلغ قدره ١٢٠٠ جنيه للحنطور، أردنا بداية أن نقوم بالجولة مشياً على الأقدام غير مدركين لكبر المسافة التي سوف نقطعها و لكن أنقذنا من ذلك المصير إلحاح سائقي الحناطير و مساومة صديقنا لهم- و هو ذو شخصية كاريزمية - فاستئجرنا الحنطورين بقيمة ١٥٠ جنيه للحنطور الواحد. قناطر الخيرية تمتاز بالهدوء و النظافة الشديدة و الجمال لذلك يقطنها كثير من المشاهير و يعود اسمها إلى قناطر التحكم بمياه النيل التي بناها محمد علي باشا و هي ذات بناء هندسي جميل.
المحطة الثامنة
عودة إلى الإسكندرية و هذه المرة لنراها في ضوء النهار، عروس البحر المتوسط بشواطئها الساحرة و أجوائها الخلابة و عراقتها الضاربة في القدم، "ميامي" هذا هو اسم الشاطئ البحري الأشهر بالمدينة و الذي كان مكان سكننا قريباً منه، و من محطة الحافلات ركبنا متجهين نحو قلعة قيتباي الواقعة في شبه جزيرة تمتد بداخل البحر ليتزاوج جمال الشاطئ الصخري بالجمال العمراني للقلعة، وصلنا إليها بعد التنقل من الحافلة ثم الحنطور و انتهاءً بالمشي، مررنا على جدارية بالغة الكبر تزينها لوحة فسيفسائية ضخمة، و عند مواصلة المشي و بالتحديد قبل الوصول إلى مدخل القلعة مررنا على باعة الصدف و المحارات و التحف البحرية الأخرى، و كما في كثير من الأماكن السياحية المشهورة بمصر لا بد أن تجد صاحب الحصان الذي يعرض عليك ركوبه و التقاط الصور لك في وضعية الفارس المغوار.
المَعلَم المهم الذي لا يجب تفويته في الإسكندرية هو مكتبتها التي تعد من أعرق المكتبات بالكرة الأرضية و التي بُنيت قبل ٢٣ قرنا و من يومها تعرضت لحرائق كثيرة عبر التاريخ قبل أن يتم إعادة افتتاحها عام ٢٠٠٢، تصميمها المعماري الداخلي و الخارجي هو تحفة فنية و هندسية معماوية بكل المقاييس و بالداخل يوجد متحف للطابعات القديمة التي تعود لقرون مضت، و هنالك أيضاً تماثيل لأشهر أدباء مصر. موقع المكتبة مجاور لجامعة الإسكندرية لذلك تجد أعداداً كبيرة من الطلاب يتصفحون الكتب و يجلسون في الأماكن المخصصة للقراءة.
المحطة الأخيرة
حين تتظاهر في مصر بأنك من جنسية عربية أخرى - غير خليجية- فسوف تحصل على تعاطف لا بأس به من ناحية الأسعار، حين ترغب مثلاً بركوب الحنطور في الأهرامات سوف تحصل على قيمة ١٥٠ جنيه للحنطور بدل ٢٠٠ جنيه للراكب الواحد- طبعاً السبب الرئيسي للتخفيض هو مهارة المفاوض الرسمي قائد الرحلة الذي يكاد أن يكون مصرياً أكثر من المصريين.
و في اللحظة التي تعقب السؤال عن جنسيتكم، سوف يصمت الجميع منتظرين الصنديد الذي سوف يجيبب بالكذبة البيضاء، و نادراً ما سوف يغلب الصدق و يتم الإفصاح عن الهوية الحقيقية، كمثل تلك اللحظة التي جمعتنا في حديث مع حارس دورة المياه عند الأهرامات بينما ننتطر رفيقاً و هو يقضي حاجته - بالمناسبة قضاء الحاجة يساوي جنيهين- و مثل اللحظة التي تعرفنا فيها على أستاذ جامعي بالأدب الإنجليزي فدخل معنا في نقاش حول الأدب و الفكر و حدثنا عن أصدقائه العمانيين الذين يعرفهم من الجناح العماني بمعرض القاهرة للكتاب. إنه رجل طيب و شهم كمعظم المصريين و قد تواصل معنا بعدها عارضاً توفير تذاكر مجانية لحضور الأوبرا حيث يعمل و لكننا فوتنا الفرصة بسبب بعض الحماقات.
أما أخطر المواقف فهو حين تسألك موظفة الأمن عن جنسيتك و أنت تهم بدخول قلعة صلاح الدين فتجيبها بالكذبة البيضاء و حين تطلب منك إثبات الهوية - إجراء روتيني قد يحدث- فسينعقد لسانك فيتدخل قائد الرحلة بسرعة بديهته لإنقاذك.
محمد حمدان الحراصي
No comments:
Post a Comment