Saturday, October 30, 2021

زيارة لفرنسا وهولندا سبتمبر 2021

وصلت باريس بعد الحصول على فيزا سياحية لمدة سنتين بعد ترانزيت ساعتين بمطار صبيحة أصبنا بالذعر عندما وزع علينا طاقم الطائرة استمارات لتعبئتها وورقة تعهد بحجر منزلي لمدة 14 يوم ومتطلبات أخرى أهمها فحص سلبي لكورونا لا يتجاوز يومين.. وكما توقعت فقد كان هذا الإجراء قديما وعند الوصول كانت شهادة التطعيم بحرعتين كافية للحصول على ختم الدخول وبدون أي تعهدات أو حجر صحي وهو ما يتطابق مع آخر التحديثات في قوانين وزارة الخارجية الفرنسية من مطار أورلي أخذت الحافلة ثم الترام للوصول إلى منطقة بلجران Belgrand حيث حجزت الفندق، ما حدث أثناء ركوب الحافلة هو أن أحد المسافرين وضع كيسا ورقيا بأعلى حقيبته قرب الباب ثم ذهب للجلوس بالخلف ولم ينتبه للدوي الذي أحدثه سقوط الكيس والذي لفت نظر الواقفين بالقرب من أمتعته حتى إذا ما جاء بعد عدة دقائق ووجد أغراضه ملقاة على الأرض انفجر بالسيدة الأقرب إلى أمتعته وحدثت بينهم ملاسنة شديدة اللهجة. في مساء اليوم الأول بعد مواعدة الصديق الفرنسي (ميدي) ولقائنا بالأحضان تمشينا بالقرب من كنيسة نوتردام الشهيرة التي خلدها هيوجو في رواية(أحدب نوتردام) والتي للأسف كانت مغلقة بسبب الحريق الذي تعرضت له قبل أكثر من سنة لتضيع علي وللمرة الثانية فرصة دخولها، بعد ذلك تجولنا بالحي اللاتيني Quartier Latin حيث المنطقة الراقية والمكتبات، وعرجنا على مقهى Les Deux Magots(لي دو ماجو) الذي كان يتجمع فيه رواد الثقافة بباريس مثل سارتر وكامو ودي بوفوار ثم جلسنا لتناول القهوة بأحد الكافيهات هنالك حيث استعرضت مع ميدي جدول الزيارة وساعدني بحجز تذكرة أونلاين لليوم التالي لأجل زيارة قصر فرساي ب١٨ يورور عند الوصول بالقطار لمقاطعة فرساي القريبة من باريس وأخذ سيارة Uber كان القصر الفسيح يمتد على مساحات شاسعة جدا، حجزت ب ١٠ يورور أولا لأجل الدخول إلى الحدائق الواسعة المحيطة بالقصر.. يمكنك الوصول بسهولة إلى فرساي عن طريق القطار بتذكرة 3.5 يورو للشخص باتجاه واحد ومثله عند العودة، في السهرة مع الأصدقاء الفرنسيين بعد ذلك بثلاثة أيام أخبرتهم كيف أنني فكرت في ضخامة الميزانية التي لا بد أنها أنفقت لتشييد عمارة القصر الضخم والتماثيل واللوحات العظيمة بداخلها فكان ما أخبروني به أشد غرابة حيث أن مساحة القصر كانت بحيرة تم إخلاؤها ورفع مستوى الأرض لأجل أن يسهل تشييد القصر والأغرب منه ما أخبروني به من أن النبلاء كل صباح كانوا يحظون بشرف حضورهم لرؤية الملك وهو يتغوط!! أمر آخر أخبروني به وهو أن القصر كان يخلو من أماكن قضاء الحاجة وأن وجود الخدم كان كافيا لتنظيف القصر من المخلفات العضوية للجهازين الهضمي والبولي لأفراد الأسرة المالكة والتي يحدث أن تظهر بين الفينة والأخرى في أركان القصر. أنسب طريقة للتنقل داخل باريس هي المواصلات العامة(المترو-الترام-الحافلات) وقد أخذت بطاقة صالحة لثلاث أيام تشمل جميع هذه المواصلات بقيمة 27 يورو لمناطق باريس 1 و2 و3 تذكرة اللوفر أيضا ساعدني ميدي بحجزها اونلاين بأَول مساء حين تلاقينا وقيمتها ٢٠ يورو للشخص، واللوفر كان قلعة عاش فيها ملوك فرنسا قبل أن يقرر لويس الرابع عشر تركها والانتقال إلى قصر فرساي ثم يتم بعد قرنين تحويلها إلى متحف، وفعلا كما قال الأصدقاء الفرنسيون لاحقا فإن المتحف لا يمكن الإنتهاء من رؤية جميع ما فيه بزيارة واحدة ولا حتى بزيارتين ولكن كان يكفي أن أزور جناح الفن الإيطالي وأن أرى الموناليزا بأم عيني رغم الزحام حولها والانتظار في طابور لما يقرب من نصف الساعة، عند مدخل المتحف سترى الهرم الزجاجي ببوابته التي يليها سلم متحرك إلى تحت الأرض، إذا كنت من قراء داون براون المتحمسين له ولروايته الشهيرة شفرة دافنشي فسوف تدرك فورا أن هذا التصميم الهرمي الدخيل على الطراز القروسطي قد تم بأمر من الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وقد طلب أن يتم استخدام 666 لوحا زجاجيا لإنشائه وهو ما قدح زناد فكر عشاق نظرية المؤامرة الذين ربطوا هذا الرقم بطائفة عبدة الشيطان. للوصول إلى كنيسة القلب الأقدس Sacre coeur يمكنك النزول بمحطة مترو Abesses وثم تختار إما صعود الدرجات إلى أعلى هضبة مونتمارت الشهيرة التي ترى منها باريس وجميع معالمها تقريبا والتي توجد بها الكنيسة وهي عملية صعود متعبة، الخيار الآخر هو أن تأخذ التلفريك.. بالقرب من الكنيسة يوجد متحف لرائد الفن السوريالي سلفادور دالي وتذكرة الدخول ب13 يورو حيث ترى بالداخل سكتشات غير مكتملة لأعماله وبعضا من تماثيله الغرائبية والإيروتيكية. أما حديقة Parc des Buttes Chaumont فلا يمكن لعقل أن يتصور وجودها في قلب مدينة باريس حيث سوف تشعر بأنك انتقلت. بغتة من مدينة إسمنتية جامدة إلى قطعة أرض إستوائية ذات مساحة شاسعة بطرقها التي تعلو تارة وتهبط أخرى وجسورها وبحيراتها وتلالها الخلابة وأجزم أنك سوف ترغب بالعودة لها مجددا. أول ما لفت انتباهي حين مغادرة الحافلة لحدود باريس هو الطواحين الهوائية العملاقة وكأنما بمراوحها تشير باتجاه أرض الطواحين هولندا حيث تتوجه الحافلة بمسيرها، كانت الطواحين تنتشر بكثرة في فرنسا حيث توفر ما يقرب من 5٪ من إنتاج البلد من الكهرباء، أما طواحين هولندا التي كانت تبلغ 30 ألفا في قبل قرون وكانت تستخدم لطحن الحبوب ولنقل المياه إلى قنوات الري فلم يبق منها سوى ألف طاحونة تقريبا بتصاميمها القديمة زاهية الألوان. وسيلة النقل التي اخترتها كانت حافلة blabla car وهو تطبيق وموقع إنترتي فرنسي المنشأ ويستخدم بكثرة في أنحاء أوروبا وقبل أن يصبح لديهم أسطولهم الخاص من الحافلات كانوا فقط يعتمدون على الوساطة بين أصحاب السيارات الذين يودون التنقل بين المدن من جهة والركاب الذين لديهم نفس الوجهة من جهة أخرى، فتتم الوساطة الافتراضية بين الطرفين والاتفاق على مبلغ الدفع، ولأنني لم أجد شاغرا في سيارات المتنقلين بين المدن فقد أخذت الخيار الوحيد المتاح وهو الحافلات المملوكة لنفس الشركة. (35 يورو كانت رسوم الرحلة) أول ما يلفت الانتباه بأمستردام هو كثرة الدراجات الهوائية، ربما أكثر من البشر وهذا ما لاحظته حينما طلع الصباح بعد الرحلة الليلية من باريس لهولندا، وعندما وقفت بمحطة الترام في منطقة Plantage بالقرب من الفندق ركب معي رجل يبدو غريبا عن البلد وعند طاولة التذاكر بداخل الترام خاطبته باللغة العربية فاتضح أنه خليجي وأنه لا يتكلم غير العربية ولأنه لم يكن يحمل بطاقة مصرفية ولأن الترام لا يقبل الدفع النقدي فقد اضطرراةت لأعطائه بطاقتي وأخذت أخرى - وهي بطاقة تتيح لك استخدام جميع المواصلات ل24 ساعة- بعد حديث طال بيني وبينه أخبرني فيه أنه محام في الستينات من العمر وأنه زار هولندا عشر مرات تقريبا و أخبرني كيف أن الإنسان في عمره لا بد له من الترفيه عن نفسه بعد أن ضمِن العيش الكريم لأبنائه، كنا نمشي على الأقدام حينما وصلت للفندق الذي اتفقت الصدفة أن يكون مستأجرا هو فيه أيضا، كان يرغب في أن نكون معا طوال مكوثي بهولندا وأنه أدرى بالأماكن والمطاعم، في تلك اللحظة كان يساورني شعور بالضيق والسأم من كثرة حديثه وكنت أرغب في أن يدعني وشأني فاستغللت الفرصة عندما صعد لإحضار هاتفه لأتسلل بعيدا، ولحسن الحظ لم نلتق بعدها طوال الأيام الأربعة التالية. ميدان المتاحف كان أول محطة للزيارة وعندما تعبر الطريق الذي يخترق متحف الفنون سوف تقابلك البحيرة الطويلة بتمثال (النوايا الحسنة) الذي يمثل دميتين عملاقتين تشبهان ميكي ماوس بدون ملامح للوجه و أحدهما أطول من الآخر الصغير الممسك برجله من الخلف كتعبير عن الأبوة والأمومة، متحف فان جوخ كان هو المقصد حيث تتعرف على مراحل حياة الفنان الأشهر الذي مات منتحرا في أواخر العشرينات من عمره، كما يعرض المتحف بعض رسوماته التي لم تستول عليها المتاحف العالمية. قبل ربع ساعة نجحت في الوصول إلى شباك تذاكر FlixBus وشراء التذكرة للحافلة المنطلقة إلى روتردام بعد أن فشلت محاولات الحجز أونلاين بسبب رفض البنك للمعاملات الإلكترونية، بعد قليل حينما كنا بالطريق انتبه جميع الركاب إلى مناورة مفاجئة من السائق لتفادي سيارة أمامه تلاها صوت نفير الحافلة ثم مكابح متتالية، كان صاحب السيارة أمامنا مصرا على منع الحافلة من التقدم مهما حاول سائقنا مناورته وأخرج يده من النافذة بحركات بذيئة، ومن حسن حظنا أن كان سائق الحافلة كبير السن يتسم بالحلم والرشد فمر الموقف بأمان بعد بضع دقائق من العناد وسوء السلوك لقائد السيارة أمامنا. بمحطة روتردام المركزية أخذت الترام إلى البيوت المكعبة التي تشتهر بها المدينة وهي ذات تصميم فريد بجدرانها ذات زاوية الميلان 54 درجة ومقابلها يقع الميدان الذي يحيط به مبنى markthall بتصميمه القوسي العجيب وواجهته الزجاجية التي تعكس صورا للمباني المواجهة وكذلك الكنيسة القديمة من جهة أخرى للميدان. هل تعرف إيراسْمُس؟ إنه الفيلسوف الشهير الذي تفخر به المدينة والذي نشأ نشأة دينية وكان يعد لكي يكون راهبا إلا أنه آثر حياة التجوال والكتابة، أمام مدخل الكنيسة القديمة يوجد تمثال لإيراسمس ممسكا بكتاب يقرأه، بطرف الحديقة الصغيرة أمام البوابة حيث كانت فرقة موسيقية تؤدي بعض المقطوعات الدينية بمنصة مسرحية وقد تحلق حولها الناس والبعض قد أحضر أطفاله في يوم الأحد هذا، وداخل الكنيسة ترى الإبداع في العمارة ككل الكنائس الأوروبية حيث السقف الذي يرتفع شاهقا لأمتار عدة و مصابيح الثريا المتدلية بضخامتها والرسومات التي تحكي قصص القديسين بالجدران. كالعادة.. ها نحن ذا بحافلة(فلكس باص) وهذه المرة من بروكسل في طريق العودة إلى باريس، خلفي يركب أب عربي وولده الصغير قادمان من سوريا عبر اليونان ومن باريس سيذهبان إلى ألمانيا، الولد الصغير مصاب بمتلارمة داون كما فهمت من والده في أثناء الحديث البسيط بيننا حينما كان يسأل إن كان عليه أن يتخذ مقعدا معينا أم أن له حرية اتخاذ أي مقعد يشاء، لم أقدر على منع نفسي من التفكير في حكمة القدر الإلهي من وراء توزيع المعاناة والرفاهية بين البشر وهو تفكير يلح علي مؤخرا ويجعل النفس أكثر إحساسا بالآلام والأحزان التي قسمت لغيرها، تلفتت حولي ناظرا إلى جانبي الطريق بالغابات والقرى الخضراء وأنا أستعيد دهشتي من جمال الطبيعة، الدهشة التي ألاحظ دائما ذبولها جراء التعود والألفة.. وأحيانا بسبب الحنين إلى الديار. بالأمس في بروكسل وقفت الحافلة وسط أمطار غزيرة لأضطر لأخذ سيارة Uber بدل المشي لعشر دقائق إلى الفندق الذي اخترته قرييا من محطة الحافلات، وكالعادة كان اسم السائق يدل على أصله العربي(سالم) وقبله(يونس) في أمستردام، بعد ساعتين حين توقفت الأمطار كان الاتجاه صوب الساحة الكبرى المحاطة بأبنية ذات طراز معماري قوطي أهمها مبنى البلدية Town Hall و متحف بروكسل، كانت فرق من طلاب المدارس تتنافس بينها في مسابقة لا أدري كنهها ولكنم يتراكضون بين السياح و يتحدثون إليهم حتى وصلوا إلي ويسألوني إن كان يمكنني أن أعطيهم عملة من بلدي، أعطيتهم أقل ما أملك من نقد فشكروني وركضوا بحثا عن سائح آخر. أفقت من شرودي على صوت سائق الحافلة يعلن توقفه في محطة مطار شارل ديجول لمدة نصف ساعة قبل المواصلة نحو وجهتنا بقلب باريس، ثار الكثير من الركاب ساخطين لأن ذلك سيعني تأخرنا لمدة ساعة ونصف بعد حساب الازدحام المروري ونقطة التفتيش الأمنية قبلها بساعتين، وهنالك ركاب ستفوتهم حافلات يجب أن يركبوها للذهاب إلى مدن أخرى ومن أحد هؤلاء الركاب كان الأب السوري وابنه إذ ستفوتهما رحلة مدتها ثمان ساعات إلى شتوتجارت الألمانية وهو ما كان فعلا. بعد التواصل مع مسؤولي شركة النقل طلبوا منه حجز فندق حتى موعد الحافلة التالية بالسابعة صباحا وسيقومون بتعويضه عن مبلغ حجز الفندق.. عندما تركتهما بالمحطة كان الأب قد قرر قضاء الليل بالمحطة ورفض عرضي لأن أستاجر له غرفة بفندق قريب بدون إبداء أسباب واضحة. تأخير لأقل من خمس دقائق كان سببا في تفويت قطار الثامنة و40 دقيقة من محطة (جاري سان لازار) لأضطر لحجز قطار التاسعة وعشر دقائق في رحلة تمتد لساعتين ونصف إلى مدينة روان Rouen عاصمة إقليم نورماندي مسقط راس صديقي (ميدي)، بعد توقف القطار بمدينة Everux حان وقت أخذ حافلة Autocar ليكون الوصول في تمام الساعة 11:40 بدل أن يكون في تمام العاشرة لو لم أفوت القطار المباشر إلى روان، كان ميدي بالاستقبال ومعه كانت الجولة في المدينة فزرنا الكاثيدرالية التي يطلق عليها سياحيا اسم نوتردام نورماندي رغم عدم معرفة السكان لذلك واكتفائهم بتسميتها(الكاتدرائية) كنا قبلها قد زرنا كنيسة(جان دارك) وهي المناضلة ضد الإنجليز في القرن الخامس عشر وواحدة من اشهر الشخصيات في تاريخ فرنسا وكنيستها نتخذ شكل اللهب دلالة على الطريقة التي أعدمت بها المناضلة، وفي وسط الباحة يرتفع عاليا جدا العمود الذي أحرقت عليه جان دارك. بعد زيارة لمقبرة الطاعون المسماة تبعا للقديس (سان ماكولو) التي تحولت لاحقا إلى مستشفى ثم في الوقت الحالي هي مجموعة من المحلات التجارية، وأما ساحة سوق الأحد فقد كانت خالية يوم الأربعاء ولكنها تشهد اسبوعيا تجمعا لباعة الأجبان والفواكه واللحوم والملابس وغيرها، روان- مدينة المائة برج كما هو اسم الشهرة- تتخذ شكلا مقعرا وبالجزء المرتفع منها في الضاحية التي توجد بها أحد أجمل المقابر بفرنسا والمدفون بها الأديب الروائي جوستاف فلوبير كان يوجد بيت الصديق ميدي الذي ترعرع فيه والذي لا زال يقطنه والداه المسنان وقد أوصلنا إليه والده ذو الأصول الجزائرية والذي تمكنا من التواصل معه بالعربية الفصحى التي ما زالت بقايا منها مستقرة بذاكرته.. تناولنا القهوة المعدة بالمكبس الفرنسي French press ومعها الحلويات الفرنسية وبعد عبور حديقة المنزل الخضراء الجميلة والمَنحَل الصغير بها، أخذنا جولة في البيت المشيد من الخشب والذي تزينت جدرانه بالتماثيل واللوحات والأوجه الأفريقية ثم جلسنا للقهوة والسمر و انضمت لنا والدة ميدي لاحقا.. تحدثنا عن جمال إقليم نورماندي وعن عمان التي زاروها قبل 3 سنوات وعن السفر والترحال حيث يخطط الوالدان لرحلة بعد إسبوع إلى البرتغال بغرض التنزه والمشي الساحلي.. كذلك تحدثنا عن مستوى المعيشة في فرنسا حيث تتفاوت الضرائب تبعا لدخل الفرد وقد تصل أحيانا إلى 25٪ من الدخل وكيف أن العاطلين عن عمل يستلمون منحة شهرية تقدر ب 450 يورو أي ما يعادل 200 ريالا عماني. حينما يعزمك صديق فرنسي للغداء بمطعم فاستعد لغداء يمتد لساعتين أو أكثر فالغداء هنا مقسم لأربعة أجزاء تبدأ بالمقبلات فالوجبة الرئيسية ثم وجبة الجبن وتنتهي بالحلويات... وإذا كنت لا تعلم فللجبن أهمية خاصة بالبلاد الأوروبية وثقافتها وإعداده هو صناعة وفن له طرق لا تحصى وبعض أنواع الجبن الفاخر يزيد الإقبال عليه كلما تقادم الزمن على تخزينه، أما الغداء الذي عزمني عليه ميدي فكان بمطعم شهير للوجبات البحرية في قلب المدينة وكانت فرصة جميلة لتجربة المطبخ الفرنسي الأصيل، وكانت أطباق السلمون والحلزون المشوي بصلصة الثوم وصلصة الجزر من أشهى ما تذوقت. تاشفين وسلمى وابنتهم الصغيرة.. عائلة فرنسية من أصول مغربية اتفقت الصدفة أنهم مسافرون معنا إلى عمان وحين تم سؤالهم عن شهادة التسجيل بـ E mushrif تطوعت بالشرح لهم عن معنى ذلك ثم وقفت معهم لأكثر من ربع ساعة وساعدتهم بالحجز والدفع رغم صعوبات التواصل فإنجليزتهم لم تكن بالجودة الكافية ويبدو أنه ليس لهم زاد من العربية سوى العبارات ذات الأصل الإسلامي

Thursday, October 8, 2020

التعصب المذهبي في عصر ثورة المعلومات

 مع ظهور الانترنت وما حققه من سهولة التواصل بين الناس عبر العالم وما أدى إليه ذلك من توفر المحتوى العلمي والدراسات وإمكانية الطرح الحر للأفكار والآراء وإتاحة مناقشتها للجميع، كل ذلك أدى إلى ضعف قبضة السلطة الدينية على العقول ولم تعد المعرفة الدينية تلقينيه كما في السابق حين كان الوصول إلى العلم والمعرفة محاطا برقابة السلطة الدينية السائدة والأحادية في الرأي.


في الماضي لم تكن الكتب ووسائل المعرفة متوفرة إلا لقلة من الناس، وحتى أولئك القلة كانوا يحوزون على الكتب ذات التوجه المذهبي المغلق فقط، أما ما يخالفها فكان شبه ممنوع من التداول إلا لغرض تفنيده ومحاربته، أما في الوقت الحاضر وفي ظل الانفتاح الرقمي وانتشار المنتديات ومنصات الحوار الفكري، لم تعد السلطة الدينية تمتلك نفس القبضة القوية على عقول وأفكار الناس كما في الماضي.


نتيجة لكل ذلك، نجد أن الناس والقراء والباحثين أصبحوا أكثر ميلا لتقبل اختلاف الآراء وأكثر استعدادا لتقبل الحقائق المبنية على الحجج العقلية عوضا عن أخذ القوالب الجاهزة للتفكير.


ومنذ بداية الألفية الثالثة ظهر مفكرون كثيرون خرجوا عن الأطر المذهبية الضيقة وبرزت تيارات فكرية تنادي بأهمية التعدد وتدعو إلى قبول الاختلاف وتقوم بالتنظير لأسس نقد المناهج الدينية وأخذت زمام المبادرة من أجل نشر ثقافة التعدد الفكري وحرية العقائد وإضعاف روح التعصب الديني والمذهبي.



كورونا و الموت الأسود

 نُشِر كتاب (الموت الأسود) للمؤلف جوزيف بيرن عام ٢٠٠٤، ولا يملك القارئ حين يطالعه إلا أن يتعجب وهو يقارن بين ما يصفه الكتاب إبان انتشار الطاعون قبل ٥ قرون وما يحدث الآن وقت اجتياح وباء كورونا، وسنستعرض لكم بعض ما ذكر:

  • رغم أن كثيراً من أساليب الوقاية كانت بدائية أو خرافية كحرق البارود وتدخين التبغ، إلا أن العزل أو التباعد المجتمعي بالاصطلاح المعاصر كان رغم ندرته حاضراً في زمن تفشي الطاعون، حيث يحكي الكتاب عن بَقّال حبسَ نفسه وزوجته وبناته الثلاث في منزلهم وكان قد خزّن مؤناً وافرة من الطعام والشراب، رغم عدم وجود إحصائيات ورسوم بيانية بالمعنى العلمي الحديث إلا أن البقال استند إلى كشوف الوفيات وما أشارت إليه من تحركات جغرافية للعدوى ثم قرر الانتقال إلى احدى الضواحي المعافاة من المرض.
  • أحد أساليب الردع لمخالفي العزل التي رأينا بعض الدول تطبقها بصرامة هو أسلوب الضرب بالعصي، وينقل لنا الكاتب ما أقره البرلمان بإنجلترا عام ١٦٠٤م (يمكن جلد الشخص المعافى الذي وُجد في الخارج بصورة غير شرعية)
  • وبخصوص الغذاء المجاني الذي توفره الدولة حالياً للمناطق المنكوبة نجد وصفاً مشابهاً (اشتكى عمدة ليستر إلى إيرل من أن الأموال المخصصة لدعم الفقراء المحبوسين لا تأتي بسهولة وأن نفقات الطاعون ارتفعت إلى ٥٠٠ جنيه).
  • في الصفحة ٢٤٥ (أضعف الموتُ والفِرارُ الحكوماتِ المحليةَ.. شغرت الوظائف وتوقفَ جمعُ الضرائب ولم تُحفظ السجلات وتوقف استخدام الموظفين ودفعُ الرواتب).

 السلع والأشخاص المشتبه بأنهم يحملون الطاعون يتم وضعهم في محاجر خاصة وقد أسميت كرنتينا Quarantine  لأنها تفرض عزلاً لمدة 40 يوماً Quaranta”

Thursday, December 5, 2019

محطات سياحية في الأراضي المصرية


تسمى مصر أم الدنيا و أرض الكنانة و يرى الدكتور فاضل الربيعي أن الهكسوس الذين غزوا مصر في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد كانوا قبائل عربية تتزعمها قبيلة (مضر) التي أعطت اسم أحد فخائذها (كنانة) لهذا البلد و غير مستبعد كذلك بحسب الربيعي أن يكون اسم مضر قد تم تحوير نطقه ليصبح (مصر). في هذه البلد كانت بذور النهضة العربية قد بدأت بالنمو في بدايات القرن العشرين فأنتجت علماء و مفكرين و فنانين و أدباء كثيرين قبل أن تحدث ردة على تلك النهضة بسبب التقلبات السياسية في المنطقة. 

المحطة الأولى 

في الساعة الثالثة فجراً بمحطة حافلات الإسكندرية وجدت نفسي أشرب شاياً مع ثلاثة أشخاص أحدهم عرفته منذ ست ساعات و سوف يصبح صديقاً مقرباً جداً، أما الآخران فلم أعرفهما إلا منذ ساعة حين ركبنا سيارة الأجرة من المطار، إنها الإسكندرية التي كانت يوماً منارة للعلم و المعرفة في العهد الروماني و كانت مكتبتها هي الأشهر على مستوى العالم قبل أن تأتي عليها نيران التعصب العمياء، و قد خلدت السينما تلك اللحظة في فيلم Agora الذي يعرض لقصة الفيلسوفة الإسكندرانية الشهيرة هيباتيا، الإسكندرية عروس البحر المتوسط ذات المناخ و الجو الساحر الذي يجذب إليه الآلاف من السواح سوف لن أراها في وضح النهار إلا بعد أيام. 

 المحطة الثانية 
 
عند النزول إلى مطار الإسكندرية وجدنا تعاملاً على مستوى عالٍ من قبل موظفي المطار و الجوازات، و هو ما تأكد لاحقا من أن شعب مصر يمتاز بالشهامة و الطيبة، أما في القاهرة المزدحمة بملايين الناس و بسبب عدم جودة الأوضاع الاقتصادية فمن الطبيعي جداً أن تحدث أحياناً بعض المتاعب خاصة بين المارة و السائقين. يتميز المصريون - إلى جانب الظرف و حس الفكاهة- بالطيبة الشديدة و الشهامة ، و لا يقلل من هذه الحقيقة ما قد يصادفه الزائر هنا أو هناك من بعض الأشخاص الانتهازيين فهذا شيء وارد في دولة مليونية تضم ثلث عدد سكان الوطن العربي. 

إذا سألت أي سائح لمصر عن أهم معلم سياحي يود زيارته فسيجيبك بدون تردد بأنه الأهرامات و أبو الهول، و لذلك فقد كانا أولى وجهاتنا السياحية و حين نزلنا في منطقة الجيزة كان علينا أن نمشي صاعدين الهضبة و سرعان ما استوقفنا أصحاب الحنطور و عرضوا علينا جولة بين الأهرامات، بعد مساومة و أخذ و رد تمكن قائد رحلتنا بفضل لهجته المصرية التي لا يرقى إليها الشك من أن يوفر لنا الجولة بحنطورين لستة أشخاص مقابل ١٥٠ جنيه لكل منهما، و الحنطور هو الاسم المصري للعربة التي يجرها الخيل، بعد حصولنا على التذاكر و عبورنا للبوابة الأمنية كان الحاج عوض و الحاج طلعت - قائدا الحنطور- بانتظارنا بداخل السور المحيط بالمنطقة السياحية، و كانت السحب فوقنا قد بدأت برش بعض قطرات المطر على رؤوسنا و نحن نمر بجانب الهرم الأكبر خوفو ثم بأخيه هرم خفرع و أخيراً بهرم منقرع - و هي أسماء الملوك الفراعنة الذين قاموا ببناءها- و بسبب الصورة الخيالية التي انغرست في أذهاننا عن عظمة و مهابة الأهرامات فقد أحسست بشيء بسيط من خيبة الأمل حيث كان ارتفاع الأهرامات أقل مما تخيلت، بعد أخذنا للصور و إطلالنا على الأهرامات الأربعة الأصغر من على بعد، استئنفنا المسير باتجاه أبي الهول بأنفه المجدوعة، و قد كان موقعه يحتم علينا نزول منحدر حاد بالحنطورين الذين يجراهما خيلان مسكينان صارعا كثيراً لأجل التغلب على قوة الجاذبية نزولاً ثم صعوداً مرة أخرى، بعدها توجهنا لدخول الهرم الأكبر حيث صعدنا الطريق الصاعد بزاوية حادة في جوفه قبل أن نصل إلى حجرة الدفن التي تشهد على عظمة هذه الحضارة الضاربة في القدم. 

المحطة الثالثة

في قلب القاهرة و تحديداً في ميدان طلعت حرب سوف تجد دار الشروق مطلة على الميدان الذي يتوسطه تمثال الرجل الأول في تاريخ الاقتصاد المصري (طلعت حرب) و على الجهة المقابلة سوف تطالعك مكتبة مدبولي و كلتاهما تداعبان خيال القراء خاصة و أن أسعار الكتب لا يمكن أن تخطر على بال قارئ تعود على أسعار معرض مسقط للكتاب، سوف تجد الكتب تباع بخُمس قيمتها التي تعودت عليها و سوف تتمنى لو كنت أضفتَ الوزن الأقصى للشحن في طائرة العودة، أما حين تزور سور الأزبكية حيث تباع الكتب المنسوخة و المقلدة جنباً إلى جنب مع الكتب المستعملة و القديمة النادرة فسوف تشتري كثيراً من الكتب المقلدة متجاهلاً وخزاً صغيراً في جدران الضمير و معللاً النفس بأن العلم و المعرفة ليسا سلعاً تباع و تشترى و أنهما ملك للبشر جميعاً.
و بما أن حديثنا عن ميدان طلعت حرب فلا بد أن نذكر ميداناً آخر لا يقل شهرة هو ميدان التحرير المشهور ليس فقط باحتضانه للأحداث و الثورات السياسية بل و بوجود المتحف المصري الذي لا بد من زيارته لكل من يزور مصر لكي يرى عظمة الحضارة الفرعونية بأم عينيه. 

المحطة الرابعة 

تغلق قلعة صلاح الدين في تمام الساعة الثالثة ظهراً - أو هكذا قيل لنا- لذلك فقد اصطررنا أن نعود على أدراجنا حين كنا على وشك دخولها قبل الإغلاق بساعة و قررنا إعادة الكرة في اليوم التالي، إن القلعة التي بناها الناصر صلاح دين تحتوي على العديد من المزارات و يجب على السائح أن يقصدها في بداية الصباح حتى يتسنى له زيارة أغلب ما فيها، تقع القلعة بالقرب من جبل المقطم أشهر و أرقى المناطق السكنية بالقاهرة و قد بناها القائد المسلم الشهير صلاح الدين الأيوبي محرر القدس في معركة حطين، الجدير بالذكر أن الأيوبي من أصول كردية و ليس عربياً و أنه كان رجل سياسة تحكم أفعاله المصالح و السعي إلى السيطرة، ولكن حين تم استعادته كرمز قومي في القرن العشرين باعتباره فاتحاً و محرراً للقدس تم التغاضي عن كثير من أفعاله التي لا تنسجم و الصورة البطولية التي كان العرب بحاجة إليها آنذاك في ظل الاستعمار و الغزو الصهيوني، و تم اعتباره رمزاِ مقدساً من المستبعد بحقه الخطأ و قد أوضح ذلك الدكتور يوسف زيدان في كتابه متاهات الوهم لمن أراد أن يروي ظمأه المعرفي بعيداً عن المثاليات. 

أشهر المعالم التي تحتوي عليها قلعة صلاح الدين هي المتحف الحربي الذي تعرض فيه أنواع الدبابات و المعدات العسكرية و المقاتلات و غيرها، و سجن القلعة الذي سجن فيه المشاهير بدءا من ابن تيمية و انتهاء بالسادات و الشيخ عبدالحميد كشك، و مسجد السيدة سكينة الضخم و المهيب، إضافة للأبراج و القصور الكثيرة. 

المحطة الخامسة

أما خان الخليلي فقد خلده نجيب محفوظ في روايته الشهيرة التي تجري أحداثها في هذا الحي الشهير بمنطقة الحسين في فترة تعرض المدينة للقصف بالحرب العالمية الثانية، و بالمقابل فقد رد خان الخليلي الاعتبار لنجيب محفوظ عن طريق المطعم الشهير الذي سمي باسمه و يعتبر مزاراً سياحياً لا يوجد فيه متسع لمن يأتي متأخراً و تقام فيه أمسيات الفن و الطرب، و لا يبعد كثيراً عنه مقهى الفيشاوي الشهير و الذي افتتح في القرن الثامن العشر و قصده عشرات المشاهير العالميين عبر التاريخ، و الذي اشتهر بأن نجيب محفوظ كان يكتب فيه كثيراً من رواياته، و في خان الخليلي يمكن للزائر شراء الكثير من المقتنيات و التحف و المشغولات المصرية و الهدايا. 

المحطة السادسة 
في حي مصر القديمة نزلنا بالقرب من مسجد عمرو بن العاص ثم مشينا حتى وصلنا إلى المدخل النازل للأسفل باتجاه دير مار جرجس للراهبات حيث الممر الطويل الذي يعرض على جانبيه كتب و هدايا و تذكارات للبيع، ثم يأتي مدخل الدير على الجدار الأيسر و حين وصلنا إلى داخل الدير كان أول ما لفت نظرنا لوحة جدارية بعنوان (الكنيسة المنصورة) حُشِدت فيها رسومات لمئات الشخصيات الكنسية و بالداخل تشرفنا بلقاء راهب مهيب بلباسه الأسود و لحيته الضخمة و يبدو أنه المسؤول عن الدير، و قد تفضل مشكوراً بأن رحب بنا ثم شرح لنا قصة تعذيب القديس مار جرجس و صبره على الدين و رأينا السلسلة التي يقال أنه كان مربوطاً بها في أثناء تعذيبه و التي تعرض للزائرين بجانب لوحة جدارية للحدث الأليم. 

بالقرب من الدير توجد كنائس و مزارات قبطية أخرى و عند الخروج عائداً إلى الممر ثم صعود السلالم باتجاه الشارع الرئيسي سوف يمكنك مواصلة السير باتجاه الكثير من المعالم التاريخية الدينية بمصر القديمة و قد قمنا بزيارة واحد من أهمها ألا و هو المتحف القِبطي بعمارته المهيبة والطابقين الذين عرضت فيهما التحف و التماثيل و الرسومات المتقنة و التي تؤرخ لمراحل الديانة القبطية المبكرة، و أجد هنا من الجيد أن نذكر بأن المسيحية القبطية تختلف عن المسيحية الرومانية أو الكاثوليكية السائدة في أوروبا، و منبع الاختلاف يعود إلى الصراعات العقائدية و الجدالات بين ممثليها في مهد تكون الديانتين فيما عرف باسم المجمعات الكنسية و المسكونية و من أهم العقائد المختلف عليها بين الديانتين عقيدة طبيعة المسيح حيث يثبت الكاثوليك للمسيح طبيعتين إنسانية و إلهية بينما يثبت الأقباط له طبيعة واحدة فقط هي الطبيعة الإلهية. 

المحطة السابعة 
كوبري قصر النيل هو ميدان صغير على مدخل جسر كوبري النيل يتميز بتماثيل الأسود على زواياه الأربعة، يقع مرفأ المراكب السياحية على مرمى حجر منه و في أثناء انتظارنا لوصول الرفاق عرّجتُ على بائع كتب تحت شجرة كبيرة في طرف الميدان، و أخذت منه رقم هاتفه لعلمي بعدم وجود متسع لمزيد من الكتب في حقائبي و قد تواصلت معه لاحقاً و اشتريت منه كتاب الثابت و المتحول لأدونيس و قد قام صديقي الذي نظم الرحلة باستلامه و كان لا يزال وقتها في مصر. 
وجهتنا كانت قناطر الخيرية التابعة لمحافظة القليوبية و قد قررنا أن نتوجه إليها عن طريق النهر - أدركنا لاحقاً أن سيارات الأجرة كانت ستوفر علينا ساعات يمكن أن نقضيها في مكان آخر- فعبرنا جسر قصر النيل طولاً حتى النهاية الأخرى ثم نزلنا لنسير بمحاذاة النيل و من هناك أخذنا سيارة الأجرة باتجاه مرفأ القوارب، استغرقت الرحلة ما يربو على الساعة و في طريق العودة امتدت الفترة لضعف ذلك و هو ما أدى إلى انتهاء يومنا بدون أن نزور مكاناً آخر، عند الوصول إلى مرسى القوارب كان في استقبالنا أصحاب الحناطير حيث عرضوا علينا جولة بالعربات مقابل مبلغ قدره ١٢٠٠ جنيه للحنطور، أردنا بداية أن نقوم بالجولة مشياً على الأقدام غير مدركين لكبر المسافة التي سوف نقطعها و لكن أنقذنا من ذلك المصير إلحاح سائقي الحناطير و مساومة صديقنا لهم- و هو ذو شخصية كاريزمية - فاستئجرنا الحنطورين بقيمة ١٥٠ جنيه للحنطور الواحد. قناطر الخيرية تمتاز بالهدوء و النظافة الشديدة و الجمال لذلك يقطنها كثير من المشاهير و يعود اسمها إلى قناطر التحكم بمياه النيل التي بناها محمد علي باشا و هي ذات بناء هندسي جميل. 

المحطة الثامنة 
عودة إلى الإسكندرية و هذه المرة لنراها في ضوء النهار، عروس البحر المتوسط بشواطئها الساحرة و أجوائها الخلابة و عراقتها الضاربة في القدم، "ميامي" هذا هو اسم الشاطئ البحري الأشهر بالمدينة و الذي كان مكان سكننا قريباً منه، و من محطة الحافلات ركبنا متجهين نحو قلعة قيتباي الواقعة في شبه جزيرة تمتد بداخل البحر ليتزاوج جمال الشاطئ الصخري بالجمال العمراني للقلعة، وصلنا إليها بعد التنقل من الحافلة ثم الحنطور و انتهاءً بالمشي، مررنا على جدارية بالغة الكبر تزينها لوحة فسيفسائية ضخمة، و عند مواصلة المشي و بالتحديد قبل الوصول إلى مدخل القلعة مررنا على باعة الصدف و المحارات و التحف البحرية الأخرى، و كما في كثير من الأماكن السياحية المشهورة بمصر لا بد أن تجد صاحب الحصان الذي يعرض عليك ركوبه و التقاط الصور لك في وضعية الفارس المغوار. 

المَعلَم المهم الذي لا يجب تفويته في الإسكندرية هو مكتبتها التي تعد من أعرق المكتبات بالكرة الأرضية و التي بُنيت قبل ٢٣ قرنا و من يومها تعرضت لحرائق كثيرة عبر التاريخ قبل أن يتم إعادة افتتاحها عام ٢٠٠٢، تصميمها المعماري الداخلي و الخارجي هو تحفة فنية و هندسية معماوية بكل المقاييس و بالداخل يوجد متحف للطابعات القديمة التي تعود لقرون مضت، و هنالك أيضاً تماثيل لأشهر أدباء مصر. موقع المكتبة مجاور لجامعة الإسكندرية لذلك تجد أعداداً كبيرة من الطلاب يتصفحون الكتب و يجلسون في الأماكن المخصصة للقراءة. 

المحطة الأخيرة
حين تتظاهر في مصر بأنك من جنسية عربية أخرى - غير خليجية- فسوف تحصل على تعاطف لا بأس به من ناحية الأسعار، حين ترغب مثلاً بركوب الحنطور في الأهرامات سوف تحصل على قيمة ١٥٠ جنيه للحنطور بدل ٢٠٠ جنيه للراكب الواحد- طبعاً السبب الرئيسي للتخفيض هو مهارة المفاوض الرسمي قائد الرحلة الذي يكاد أن يكون مصرياً أكثر من المصريين. 
و في اللحظة التي تعقب السؤال عن جنسيتكم، سوف يصمت الجميع منتظرين الصنديد الذي سوف يجيبب بالكذبة البيضاء، و نادراً ما سوف يغلب الصدق و يتم الإفصاح عن الهوية الحقيقية، كمثل تلك اللحظة التي جمعتنا في حديث مع حارس دورة المياه عند الأهرامات بينما ننتطر رفيقاً و هو يقضي حاجته - بالمناسبة قضاء الحاجة يساوي جنيهين- و مثل اللحظة التي تعرفنا فيها على أستاذ جامعي بالأدب الإنجليزي فدخل معنا في نقاش حول الأدب و الفكر و حدثنا عن أصدقائه العمانيين الذين يعرفهم من الجناح العماني بمعرض القاهرة للكتاب. إنه رجل طيب و شهم كمعظم المصريين و قد تواصل معنا بعدها عارضاً توفير تذاكر مجانية لحضور الأوبرا حيث يعمل و لكننا فوتنا الفرصة بسبب بعض الحماقات. 

أما أخطر المواقف فهو حين تسألك موظفة الأمن عن جنسيتك و أنت تهم بدخول قلعة صلاح الدين فتجيبها بالكذبة البيضاء و حين تطلب منك إثبات الهوية - إجراء روتيني قد يحدث- فسينعقد لسانك فيتدخل قائد الرحلة بسرعة بديهته لإنقاذك.
محمد حمدان الحراصي

Wednesday, December 4, 2019

اليابان و الفلبين

اليوم الأول 
حين يأتيك النعاس و أنت معلق على ازتفاع 5 آلاف قدم في الجو تحس لوهلة بتداخل بين عالم الواقع و عالم الحلم، ثم لا تلبث أن تكون الغلبة لعالم الواقع مع الصخب المجاور لطفل و أمه ، و هناك في عالم الطيران حيث تحسب المسافات الأفقية بالأمتار بينما تحسب المسافات العمودية بالأقدام، احتشد مئات من الركاب في أسطوانة الضغط المسماة (طائرة) لينشأ مجتمع صغير مؤقتا، تقوم فيه علاقات عابرة و له مؤونته الخاصة من الغذاء، في ذلك المجتمع الطائر فوق السحب أمضيت جزءا من الساعات التسع قبل الوصول إلى عاصمة الفلبين في حوارات مع صديقي (الباحث عن الحقيقة)، 

جزر الفلبين.. المسستعمرة الإسبانية سابقا هي الآن على رأس قائمة الوجهات السياحية العالمية، للوصول إليها من مسقط يجب أن تخسر 4 ساعات من عمرك هي فارق التوقيت بين البلدين على أمل استعادتها إذا ما رجعت يوما ما إلى بلادك، هناك بالأعلى جرت لي أحاديث مع صديقي الباحث عن الحقيقة حول عدة مواضيع كان ابرزها النظرية النسبية لأينشتاين التي شرحها صديقي شرحا مسهبا كالعادة ثم استعرض فيزياء الكم و النظريات المثيرة حولها كفرضية فاينمان حول احتمال أن يكون هذا الكون بأكمله لا يتجاوز مجرد ذرة واحدة توجد في عدد لانهائي من الأمكنة في كل لحظة و كيف أن هذه النظرية يمكن ربطها بفرضية الخلق المستمر و المتجدد للمادة كما قال بها بعض الفلاسفة و علماء الكلام.

أما نظرية التطور الداروينية فقد نسج (الباحث عن الحقيقة) قصة مثيرة على منوالها لغرض توضيح كيف استخدم علماء الأحياء و الاحافير ملاحظاتهم في بناء نظرية التطور و القصة هي كالآتي:

لنتصور مخلوقات فضائية وصلت إلى كوكب الأرض و كان لهؤلاء الفضائيين تركيب حيوي مختلف عنا بحيث لا يمكنهم ملاحظة النشاط الحيوي - البشري و الحيواني و النباتي- بل كل ما يرونه هو الهياكل المعدنية المتحركة لما نسميه نحن السيارات و الطائرات و المعدات و الآلات ، سوف يلاحظ الفضائيون وجود عنصر كيميائي - الحديد بتسميتنا- يتحول من طور المادة الخام إلى طور السبائك المعدنية ثم يتفرع إلى عدة أنواع متحركة (طائرة - سياره - باخرة - طابعة- مدينة ملاهي.. الخ)، سوف ياتي أحد أذكى العلماء الفضائيين بنظرية مبنية على الملاحظات السابقة و تقول بأن مادة الحياة الأساسية في الكرة الأرضية هي الحديد التي تمر بمراحل تطورية عجيبة جدا بدءا من المناجم إلى المصانع حتى تبلغ درجة معقدة من التطور - الآلات- لا يمكن تفسيرها إلا بالصدفة ثم سيلاحظ عالم حاذق آخر من الفضائيين وجود نوع من المركبات الكيميائية الغريبة التي من الصعب رصدها من قبل الأعضاء الحسية للفضائيين و لكنها تصاحب كل عملية تشكل و تطور لعنصر الحياة هذا - الحديد- و أن وجود هذه المركبات الكيميائية بداخل كل كائن حي (سياره - طائرة) هو أمر ضروري لأجل أن تدب فيه الحياة، لا يعلم الفضائيون أن لهذه التراكيب الكيميائية المحيرة وعيا و ذكاءً و أنها تسمي نفسها بال(بشر). سوف يحصل العالمان الفضائيان على جائزة نوبل في مجرة ألفا قنطورس بسبب اكتشافهما للمواد الكيميائية التي تسهم في جعل الحديد حيا و متحركا في الكوكب الخامس من المجموعة الشمسية و ستتوالى الأبحاث لترصد و تسجل أن هذه المركبات الكيميائية - البشر- تبدأ حياتها ضعيفة ثم يتضاعف حجمها و تصبح قوية و فاعلة لفترة من الزمن قبل أن تتراجع و تعود ضعيفة من جديد و تموت، سيكتشف الفضائيون كذلك وجود أحافير و هياكل مندثرة للسفن و السيارات.. المعذرة..أقصد لأشكال الحياة على الأرض كذلك سيلاحظون مسيرة التطور التاريخية لهذه الأنواع الحية حيث يتم تحسينها و تنشأ أنواع جديدة بعملية التطور. 

تذكرت هذه القصة - و الحوارات الأخرى مع رفيق رحلتي الباحث عن الحقيقة- بينما كنا نغادر متن الطائرة باتجاه طوابير ختم و تخليص جوازات المسافرين و التي كانت سريعة لدرجة لا تصدق مقارنة بدول سياحية أخرى، بعد شرائنا لشرائح الهاتف من صالة القادمين ثم خروجنا من بوابة المطار وجدنا الظلام الحالك في انتظارنا، الظلام الذي احتوى على سيارة الأجرة و سائقها الذي كان بانتظارنا، لأجل طلبه كنا قد استخدمنا تطبيق الهاتف Grab و الذي يعطيك خيارا رخيصا لطلب سيارة أجرة مشتركة مع ركاب آخرين، و فعلا توقفت السيارة لتقل سيدتين فلبينيتين ركبتا بالخلف في السيارة العائلية. 

حين تطأ قدماك مدينة جديدة في سفرك يستبد بك الفضول فتمضي في تأمل معالمها لتأخذ انطباعا مبدئيا عنها و لكن أستار الليل الحالك تمنعك من النجاح في هذه المهمة، فلا يبقى أمامك سوى الصمت بانتظار بلوغ محل الإقامة و استرجاع ذاكرة بعض الأحاديث الأخرى مع رفيق السفر كموضوع العمل و كيف أن راتبك تستلمه بناءً على ثقة رب العمل في صواب حكمك و اتباعك لشعورك و منطقك الخاص فيما يتعلق بالمهام المنوطة بك.

و بسبب كثرة الحديث عن النظريات و التجارب العلمية فقد أبى ذلك اليوم الأول إلا أن ينتهي بمفاجأة حملها اسم الفندق الذي سنبلغه للمبيت فيه تلك الليلة ألا و هو H2O hotel.

اليوم الثاني

إنها الساعة الرابعة عصراً في الحافلة المتجهة إلى (اوسلوب) جنوب جزيرة سيبو الاستوائية و في المقعد المجاور لنافذة الحافلة تتراءى المزارع المحاذية للطريق الساحلي، و صاحبي في السفر يغالب النوم متحديا الازعاج المتواصل المنبعث من صوت تنبيه الحافلة التي يبدو أن سائقها حائز عل شهادات عالمية في تجاوز السيارات، الطريق المتعرج ذو المسار الأحادي يخترق المزارع الاستوائية حاملاً على ظهره الحافلات و السيارات و الشاحنات و الدراجات و التوك توك.. صورة مثالية لأغلب شوارع جنوب آسيا، و لكن لحظة رجاء، كيف و متى وصلنا إلى هنا؟

بفضل تطور التقنية وصلت سيارة الأجرة المشتركة صباحا إلى فندق H2O باستخدام تطبيق Grab، و اخيرا أتيح لنا رؤية العاصمة مانيلا في وضح النهار بينما كنا متجهين إلى مبنى الرحلات الداخلية بمطار نينيو اكوينو، و بينما كنت أنظر إلى موقعنا في الخريطة تذكرت حديث صديقي في الطائرة بالأمس عن طريقة تحديد الموقع بال GPS حيث يرسل قمران صناعيان إحداثياتهما إلى المستخدم فيقوم جهازه باستخدام قوانين حساب المثلثات لتحديد موقعه بالنسبة إليهما ثم حساب احداثيات موقع المستخدم، و في الحقيقة يتلقى الجهاز إشارة من قمر ثالث لأجل تعزيز دقة الحساب بحيث أن الدقة قد تبلغ خمسة امتار، في صالة الانتظار استغليت الوقت في البحث عن أحسن الطرق للوصول إلى جنوب سيبو بعد الوصول إليها و هو ما كان بعد ذلك، سيبو هي أحد الجزر المشهورة في جنوب آسيا و يوجد فيها منطقة باسم لابو لابو المناضل الشهير ضد غزو ماجلان و الغزاة الإسبان، جنوب سيبو هو أجمل مناطق الجزيرة و توجد فيها شواطئ و شلالات و بحيرات و جزر صغيرة تتميز بجمالها المتفرد، للوصول إلى اوسلوب عاصمة الجنوب تعين علينا اخذ حافلة mybus من المطار إلى منطقة SM mall قبل ركوبنا للحافلة اقترب منا رجل فلبيني عارضا المساعدة بعد أن سمعنا نذكر جنوب الجزيرة لموظف التذاكر، جلسنا بجانبه في مقاعد الحافلة بينما أخذ يشرح لنا طريقة الوصول إلى الجنوب، علمنا أنه يشتغل في سفينة لشحن البضائع حيث يغيب أشهرا طويلة قبل أن يعود في إجازات متقطعة، رافقنا بعد توقف الحافلة إلى محطة الحافلات المحلية التي تسمى جيبني و من هنالك دلنا على الجيبني الذي سيوصلنا إلى محطة الحافلات الكبيرة للذهاب إلى اوسلوب، عند بلوغنا لمحطة التوقف دخلنا إليزابيث مول بقصد عبوره إلى الجهة الأخرى حيث توجد محطة الحافلات و في أثناء عبورنا أمام واجهات المحلات الحديثة التي تعكس نمط حياة مختلفا عما أوحت به سيارة النقل (نكال) التي نزلنا منها قبل قليل، استوقفنا رجل ينادي أمام أحد المطاعم قائلاً (مطعم حلال) كان نداء المعدة أعلى من أن نتجاهل الرجل و بعد هنيهة كنا جالسين في المطعم نتناول الشاورما وسط حفاوة كبيرة من مالك المطعم عراقي الجنسية و شريكته المسلمة، استغرقنا في الحديث مع الرجل العراقي الذي يعيش في استراليا من 20 سنة و قبلها أمضى 5 سنوات في ماليزيا، أخبرنا بتعامله مع المرأة و زوجها المسلم كذلك الذين يمتلكان محزرة لبيع اللحوم، تحدثنا عن الأوضاع في العراق الجريح و غلاء المعيشة في استراليا و فرص الاستثمار في الفلبين، بعد إنتهائنا من الغداء و بعد قليل من التسوق كنا على متن الحافلة المتجهة إلى سيبو في رحلة مدتها أكثر من 4 ساعات في البيئة الاستوائية الجميلة و مناظر البحر على طول الخط و محاولات النوم رغم الصوت المتواصل لنفير الحافلة و الذي أدركنا أنه لا غنى عنه لمن أراد القيادة في شوارع الفلبين حتى ظننا أنه اكثر أهمية من الوقود، اقتنيت ساعة مستعملة من ماركة G Shock عرضها علي بائع متجول قبل تحرك الحافلة، أخبرني صديقي الباحث أنها إن لم تكن أصلية فهي تقليد قريب جداً من الأصلي، كذلك حكى لي عن الحرف G في اسم الماركة و الذي يرمز علميا إلى جاذبية الارض علمت فيما بعد أن هذا النوع من الساعات المقلدة تباع بكثرة في البلاد و بأسعار زهيدة جدا، مع كثرة توقف الحافلة لتنزيل و حمل الركاب على طول الخط قمت بحجز فندق متواضع في أوسلوب بالقرب من المكان المشهور للسباحة مع حيتان القرش، كما أنه قريب كذلك من شلال Tumlaoag و جاء محصل التذاكر الذي يذرع الحافلة جيئة و ذهابا ليأخذ منا قيمة ركوب الحافلة، مرت الساعات الأربع بطيئة بين نوم غير مكتمل و تأمل في جمال الطبيعة من حولنا و أحاديث مختلفة عن الخطة الحكومية (رؤية عمان 2040) و زيارة مهاتير محمد لعمان و متوسط ذكاء اللوبي الآسيوي الحائز على التوظيف في عمان، أبدى صديقي الباحث عن الحقيقة رأيا يقول بأن الخطة التطويرية المسماة عمان 2040 تعول كثيرا في نجاحها على الشعب و الشباب العماني، حين وصلنا أخيراً إلى فندق Casa Bonita كانت الشمس قد أسلمت الروح و تركت الظلام يجثم على القرية الضميئة بأنوار الشارع الذي يخترقها، اسم الفندق بالاسبانية يعني (ببت الجميلة) كما اخبرنا لاحقا، كما هو ملاحظ فإن الأسماء الإسبانية منتشرة بكثرة هنا بدأ من أسماء الناس و مرورا بأسماء الاماكن و ذلك بسبب الاحتلال الإسباني الذي دام اكثر من ثلاثة قرون.
حين استلمنا غرفتينا كان الانهاك قد بلغ منا كل مبلغ، فسارعنا بالتسجيل في عرض السباحة مع حيتان القرش الذي يقام كل صباح ثم صلينا و أكلنا ما تيسر لنا من مشتريات قبل أن نغادر لزيارة عالم الأحلام.

اليوم الثالث

قروش الحوت لا تبقى طويلا قرب الساحل بعد طلوع الشمس لذلك ففي تمام الساعة السابعة صباحا كنا نقفز من القوارب المدعمة بسيقان البامبو لنسبح مع هذه الأسماك الأليفة، لقد انتبابنا شعور جميل و نحن نراها قريبا منا بمسافة متر تحتنا أو بجانبنا تضرب بزعانفها الماء الكريستالي برفق و تفتح أفواهها لتسحب الماء المالح المليء بصغار الأسماك، رؤوسها المفلطحة بدت في غاية الروعة و الجاذبية أما خياشيمها الهائلة التي تشق جذعها بتناظر أنيق فكانت أمرا أشبه بالخيال.

حين عدنا إلى فندقنا القريب بسيارة نقل البضائع الصغيرة (نكال) طلبنا من موظفة الاستقبال أن ترشدنا إلى الميناء الذي سيأخذنا إلى جزيرة سوميلون الصغيرة، وصلنا إلى الميناء بعد 5 دقائق من المشي ثم امتيطنا القارب الذي أخذنا في رحلة استغرقت 10 دقائق إلى الجزيرة الاستجمامية الصغيرة، المياه هنا أيضا ذات لون شفاف كالكريستال، وقد قمت مع صاحبي باستكشافها مبتعدين عن فوج السياح و متوغلين إلى أعالي الهضبة الصخرية ذات الأشجار و الممرات المحيطة بمنتجع راق، وصلنا بمفردنا إلى منارة إرشاد السفن و التي بناها المحتل الإسباني منذ قرون و قد قام صديقي (الباحث عن الحقيقة) باعتلائها ليطل على منظر غابات الجزيرة و الشاطئ البعيد الذين انطلقنا منه و لم يمنعني من مرافقته إلا الآم كتفي من عملية ترميم المفصل التي أجريتها مؤخرًا ، و لأنني من محبي الرمزية في الأدب فلا بد لي أن أذكر هنا قصيدة أحمد مطر التي لم يمل الباحث عن الحقيقه يوما من ترديدها و التي مطلعها (احضر سلة.. ضع فيها 4 تسعات ضع نملة) و شرح لي المعنى الرمزي في كل مفردة منها، في تلك الغابة بوسط الجزيرك كانت لي أحاديث أخرى مع الباحث عن الحقيقة في الأدب كحديثنا عن قصيدة الاصمعي (صوت صفير البلبل) حيث قال صاحبي "يبدو لي أن الشاعر قالها و هو سكران" و كذلك حديثنا عن مناسبة قول الحجاج (كن ابن من شئت و اكتسب أدبا.. يغنيك محموده عن النسب) و لم ينس صديقي الباحث أن يعيد ذكر إعجابه بالشاعر الفيلسوف أبي مسلم البهلاني.

بعد أن سبحنا على شاطئ الجزيرة الهادي، قفلنا راجعين إلى الفندق ثم لم نلبث حتى غادرناه مستأجرين العربة ثلاثية العجلات Tricycycle و التي تسمى (توك توك - اوتوريكشا) في بلدان أخرى، اتجهنا إلى السوق المتواضع في أوسلوب oslob و وصلناه بعد 10 دقائق فتسوقنا قليلا من السوبرماركت الصغير ثم تناولنا الغداء البيتزاوي من أحد المطاعم البسيطة، أكثرت النادلة من الحديث معنا و عن بلادنا و عندما هممنا بالمغادرة دخلت فتاة لم تبلغ الحلم تحمل أكياسا مليئة بالاسماك لتعرض على العاملتين في المطعم شراءها و لكنها لم توفق في مسعاها، بعدها مشينا باتجاه الكنيسة الكبيرة التي بناها الأسبان، مشينا على المنتزه المجاور للكنيسة و جلسنا على السور مواجهين المحيط و ماء البحر يضرب جدار السور أسفل أقدامنا، لفت صاحبي نظري إلى نظافة و رقي المنطقة المحيطة بالكنيسة و كأنها نقلت نقلا من أوروبا، بينما ترك ما عداها لطابعه البسيط، "تخيل السكان المحليين قبل 5 قرون و هم يعيشون على سجيتهم بدون إدارات معقدة و لا صناعات متقدمة" هكذا بدا الباحث روايته لقصة الاحتلال الإسباني لجزر الفلبين، "ثم أتى ماجلان و زمرته بسفنهم و أسلحتهم ليفرضوا النظام بالقوة و يستخدموا السكان في إنتاج ما يمكن من السلع لتستفيد منها إسبانيا و منعوا كل ما من شأنه أن يخل بنظام المحتل الغاصب و جاءوا بقوانين تضمن أن تأخذ العدالة - المزعومة- مجراها ضد كل من تسول له نفسه التمرد أو رفض قانون المحتل المتحضر" في تلك الفترة طبعا نشط البطل القومي لابو لابو و أقنع عددا لا بأس به من السكان بأهمية الوقوف في وجه الاحتلال ثم دفع حياته ثمنا لذلك. 

في طريق عودتنا كانت الشمس تشير إلى منتصف الظهيرة و وجدنا مجموعة من طلاب المدارس متجمعين بالقرب من حديقة الكنيسة و لما لمحونا من بعيد و شاهدوا فرق الطول بيني و بين صاحبي هتفوا ينادونه و يسألونه عما إذا كان يلعب كرة السلة، فرد عليهم مبتسما بالنفي و قال بأنه يلعب كرة الطائرة، قدموا لنا دعوة كريمة للعب الطائرة و بعد تردد اعتذرنا منهم بلطف و أكملنا طريقنا في المنطقة التجارية الصغيرة جدا جدا لدجة أننا صادفنا صاحبة المطعم مجددا فأخبرناها برغبتنا في العودة، ارشدتنا مشكورة إلى عربة الجيبني لنركبها منتظرين بضع دقائق حتي تمتلئ، في أثناء انتظارنا ركب معنا طالب مدرسة شاب و جرى بيننا حديث مطول لم ينقطع حتى لحظة نزولنا من الجيبني عند الفندق، عرفنا من الفتى بأن ساعات الدراسة تمتد من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة عصراً مع فسحة لمدة ساعة تبدأ في الثانية عشر، أما هو فقد حصل على عذر للمغادرة مبكرا لاسباب منزلية، كانت لغته الإنجليزية تبلغ حد الطلاقة في التحدث و علمنا منه بأن اللغة المحلية في سيبو تختلف عن لغة الفلبين الرسمية (التاغلوغ) و ذلك متوقع لأن البلاد تحتوي على كثير من العرقيات المختلفة. 

بعد أخذ فترة من القيلولة في الفندق لتخفيف الصداع الذي شعرت به منذ استيقاظي صباحا، ركبنا الدراجتين المستأجرتين خلف سائقيهما و اتجهنا نحو شلال التومولوج، ركوب الدراجة صعودا في التلال و بين الأشجار كانت تجربة جميلة بحق، و عند النزول يمكنك رؤية البحر و الجزر القريبة من خلال الفرج بين أغصان الشجر، تأخرنا قليلا بسبب فراغ الهواء من إطار الدراجة التى كانت تقل صاحبي، ذهب سائقها لتبديله و لكنه رجع بدراجة جديدة، بينما كنا ننتطر عودته علمنا من الآخر بأنهم يستاجرون الدراجات بما يقرب من 35 دولار شهريا و ليست ملكا لهم كما كنا نظن، حين وصلنا إلى الأعلى توجب علينا أن نترجل من الدراجتين و ننزل مشيا على طريق شديد الانحدار لنصل إلى أسفل الشلال الرهيب الَتسلقط من علو يزيد على الثلاثين متراً و البحيرة التي يصب فيها و التي يصل عمقها إلى منتصف القامة، و بعد أخذ ذ الصور و الإصابة بالبلل أسفل الشلال عدنا لصعود الطريق المنحدر لما يقرب من ربع الساعة حتى تقطعت أنفاسنا. 
إن النسبية و اختلاف الثقافات تتجلى بأوضح صورها في أثناء السفر، فعندنا مثلا من غير الوارد أن نفكر في ان يكون الأرز مطهوا بالسكر كما في مثلثات الأرز الفلبينية المعبئة في سعف و أوراق الشجر، هذا ما فكرت فيه و نحن نتناول وجبة العشاء في أحد المطاعم المعدودة بأوسلوب حيث طلبنا السمك و الحبار المشوي، بعدها مضينا لشراء بعض الاغذية من السوبرماركت الصغير و بينما كنت أهم بشراء الفواكه من العربة المتجولة فاجأني وصول الحافلة فركبناها ثم قفلنا راجعين.

اليوم الرابع

حسب الاتفاق كنا على أتم الاستعداد لتسجيل الخروج في تماَم الساعة السادسة و النصف صباحا، في اليومين، و قد كانت بلغ من حرارة الوداع و شدة اندماجنا مع طاقم الفندق أنهم قد التقطوا معنا صور السيلفي ثم ساعدوننا بإيقاف إحدى الحافلات الصباحية الكبيرة المتجهة نحو منطقة باجاوا - بعد توقف في محطة قريبة لركوب حافلة ثانية- و فعلاً كنا بعد 3 ساعات نقف عند المحطة و لحسن الحظ كان بمحاذاة نقطة التوقف مكتب يقوم بتنظيم رحلات سياحية نحو الوجهة التي جئنا من أجلها ألا و هي شلالات كاواسان، في الفندق لم نجد سوى عرض وخيد يشمل نشاطاً جبليا و سباحة و قفز في الشلالات لمدة تزيد على ث ساعات بقيمة 1500 بيسو للشخص (10 ر. ع) و لذلك كان القرار أن نمشي إلى الشلال الرئيسي فقط و الذي يتطلب دفع 50 بيسو فقط لدخوله، و لكن مع المكتب الذي تصادف افتتاحه قريبا - كما قال لنا أصحابه - وحدنا عرضاً افضل بقيمة 900 بيسو يشمل التوصيل بالدراجة و القيام بنشاط جبلي و سباحة في 3 برك و 3 شلالات لمدة ساعة، تركنا حقيبتي الظهر الكبيرتين التين تحويان أمتعتنا عند أصحاب المكتب - و هو في الأصل بيت تسكنه العائلة المالكة للمكتب- و لبس كل واحد منا سترة النجاة و الخوذة ثم اتجهنا من فورنا بالدراجة إلى منطقة بداية المغامرة و التي تبعد ما يقرب من ربع الساعة، و لا داعي للقول بأن المناظر في الطريق كانت ساحرة جدا، أما المغامرة نفسها فلا أظنني سأجد الكلمات المناسبة لوصفها بما فيها من مناظر لغابات تخلب الألباب و مشي بمحاذاة النهر المهيب و سباحة و قفز من ارتفاعات تثير التحدي إضافة إلى التأرجح الطرزاني فوق أحد البحيرات ثم الغوص داخلها، و تنتهي المغامرة عند الشلال الرئيسي و اابحيرة الكبيرة التي تزدحم بالسياح، مهما حاولت وصف هذه المغامرة فلن أتمكن من إيفائها حقها و لو لم يكن في رحلتنا شيء غيرها لكفانا. 

عودة إلى المكتب السياحي حيث سمحوا لنا بالاستحمام عندهم ثم أوقفوا لنا الحافلة العائدة إلى سيبو، على الخريطة تبدي لي أكثر التأثير الإسباني حيث توجد منطقة على الساحل الغربي باسم طليطة Toledo، لا يبدو لي أن الاستعمار قد ترك خيراً كثيراً لأبناء البلد، طابع الحياة البسيطة ما زال هو الغالب، يتضح ذلك من أعداد الباعة المتجولين ااذين يقتحمون الحافلة كلما توقفت أو يخيطون بنوافذها لعرض المأكولات الشعبية و الكعك المحلي و العصائر و علب الماء، الشارع يبدو في حالة جيدة مقارنة بدول آسيوية أخرى و لكنه لا يختلف عنها في التواءاته و تعرجاته التي ترهق الظهر الذي يتولى مسؤولية حفظ توازن الجذع، زاد من ذلك جلوسنا بمؤخرة الحافلة فقمت بتغيير مكاني متقدماً إلى المقعد قبل الأخير و لكن تركت متاعي و حقيقتي بالمقعد الخلفي، كانت المقاعد شبه فارغة و لكنها ما لبثت أن امتلئت خاصة كلما اقتربنا من المدينة، بعد وقت طال لأكثر من 3 ساعات وصلنا إلى المحطة الأخيرة للحافلة حيث ترجلنا بعد أن جاهدت لانتزاع حقيقبتي من أسفل المقعد الخلفي، و أدى بذلي لذلك الجهد إلى نسياني لسماعات الرأس الكبيرة بالكرسي الذي كنت أجلس عليه، و لم أنتبه الا بعد ربع ساعة حينما كنا نتسوق من (إليزابيث مول) فأسرعت الخطى عائداً بعد أن تركت متاعي مع صاحبي في المطعم الإسلامي الذي زرناه من قبل، في مواقف الحافلات - المتشابهة و صعبة التمييز- تنقلت من حافلة إلى أخرى متفاديا أن يراني السائقون المجتمعون عند إحداها، و لما يئست اتجهت إليهم طلباً للمساعدة فأشاروا إلي بالصعود إلى المكتب بالأعلى في بناية المحطة ذات الطابقين، أسرعت إلى المكتب الذي اتضح أنه للودائع و الشحن و تحصيل التذاكر، و اضطررت إلى الانتظار في الجو الخانق حتى تعود الحافلة من مركز الصيانة، هممت بالمغادرة و نسيان الأمر و لكن بعد ثلث الساعة كنت أغادر المحطة بعد أن أرحت ضميري بتأكيد عدم العثور على مفقودتي. 

حين رجعت إلى صاحبي بالمطعم أخبرني أنه أمضى الوقت في الحديث مع صاحبة المحل -كان العراقي قد غادر عائداً إلى أستراليا- و قد أخبرته عن قصة إسلامها، بعد عادت للجلوس معنا سمعتها تذكر بأنها كانت كاثوليكية متشددة و لكن زوجها الضابط بأحد الأجهزة الأمنية قرأ كثيراً عن الإسلام بحكم عمله ثم اعتنقه و قد حدثت بينهما خلافات كثيرة في البداية بسبب ذلك كادت تصل حد الانفصال، بعد ذلك امتد الحديث بنا لما يقرب من الساعة حيث قام الباحث عن الحقيقة بتوضيح وجهة نظره لها في كثير من الأمور مثل تعدد تفسيرات القرآن الكثيرة و ضرورة تجديد التشريع لينسجم مع الحياة الحديثة كما شرح لها الأصل السياسي للخلاف المذهبي بين المسلمين منذ عهد الصحابة و ضرورة أن يركز المسلمون على نقاط الاتفاق بينهم - كما يفعل المتعلمون و المثقفون- و ترك نقاط الاختلاف و التفرقة التي ليست من جوهر الدين، و في توضيح نسبية الحقيقة ضرب لها مثال العميان الثلاثة الذين طلب منهم وصف الفيل حسب ما لمسوه بأيديهم. 
وافقت السيدة الفاضلة مشكورة على ترك حقائبنا في المطعم ريثما نذهب إلى مسجد (ستي مريم) الذي دلتنا عليه، مشينا لما يقرب من ربع الساعة ثم وصلنا إلى المسجد الذي سبق و أن سمعنا صوت الأذان ينبعث منه حين وقفت بنا الحافلة في المحطة، يعتبر المسلمون من الاقليات بالفلبين و في البيوت المحيطة بالمسجد رأينا صور السيد المسيح و الأيقونات المسيحية معلقة لتبعث رسالة صريحة على ما يبدو، من بعيد استقبلنا رجل ذو لحية بيضاء مهيبة و دلنا على مكان الوضوء. 

في طريق عودتنا كنا نفكر فيما إذا كان يتوجب علينا التبكير بالذهاب إلى المطار إذ يجب أن نكون هنالك بعد ساعتين، و تبعاً لحسابات العم جوجل فسيلزم ما يقرب من الساعة بالسيارة لتخطي زحام الشوراع في ذلك المساء، و لكن السيدة المسلمة أوضحت لنا خطأ حسابات جوجل و أننا لن نتمكن من الوصول في الوقت المناسب بسبب الاختناقات المرورية التي تعاني منها المدينة ليلاً، و بدلاً عن ذلك نصحتنا بركوب دراجات الأجرة و التي ستتمكن من المناورة و قطع الزحام بسلاسة، و قد سعادتنا بالفعل حين طلبت من أحد العاملين معها أن يحجز لنا درجتين و أن يساوم في السعر لأجلنا، ودعناها بامتنان فائق و ركبنا خلف سائقي الدراجتين في تجربة ليلة لا توصف في شوارع المدينة و فعلاً لاحظنا حجم الازدحام المروري قبل أن نصل إلى المطار في الوقت المناسب و قد كلفنا ذلك مبلغ 300 بيسو للشخص (ريالين تقريبا). 

في صالة انتظار البوابة المؤدية إلى طائرتنا جلست مقابلنا فتاتين و لكن لاحظنا وجود دلائل عديدة تشير إلى أن الأصل الجنسي لكل منهما مخالف للظاهر، و هذه إحدى الظواهر المنتشرة هنا و التي صعب علينا تفسير السبب وراء شيوعها و انتشارها بشكل كبير في الفلبين و مملكة تايلند.

اليوم الخامس

لم يحمل هذا اليوم أحداثا كثيرة، كنا قد وصلنا البارحة إلى مانيلا و استئجرنا نزلا قريباً من المطار، في الصباح طلبنا وجبة الإفطار و التي تكونت من pancake منزلي الصنع لم يسبق لنا أن تذوقنا مثله، ببرنامج Grab أخذنا سيارة إلى المطار، و ما هي إلا سويعات حتى كنا في الجو و صاحبي يتحدث عن تقارب التكوينات الجسدية لشعوب العالم بمرور الوقت بسبب الانفتاح الاقتصادي و اشتراك جميع الشعوب في أنواع الغذاء يوماً بعد يوم، يستثنى من هذه القاعدة كوريا الشمالية التي تعيش في عزلة عن العالم و الاي وجد الخبراء أن بنياتهم الجيدية لا تزال محافظة على خصوصياتها. 
في داخل الطائرة التابعة ل Cebu Pacific طرحت مسابقة (سؤال و جواب) في مجال الحفاظ عن البيئة و أعطيت الجوائز للركاب الثلاثة الفائزين، استمرت الرحلة الجوية ما يقرب من الأربع ساعات و كان الليل قد حل حينما وصلنا العاصمة طوكيو، انتهينا من إجراءات ختم الجوازات ثم سألنا عن أماكن بيع شرائح الهاتف لنقوم بشراء شريحتين بقيمة 2500 ين للشريحة (9 ريالات) تحتوي على بيانات إنترنت 1 جيجابايت و بدون مكالمات، اتجهنا بعدها لمكاتب شركة Japan Real أو JR اختصارا و أريناهم إيصالات الشراء للبطاقة المفتوحة التي تمكن صاحبها من استخدام قطار الطلقة لعدد غير محدود من المرات و التي اشتريناها عبر النت و تم توصيلها إلى مسقط عبر FEDX، تم إعطاؤنا وثيقة المرور JR Pass الصالحة لمدة 7 أيام ثم باشرنا استخدامها بحجز القطار السريع من مطار ناريتا الدولي - الواقع بعيداً جداً عن طوكيو - و الذي يتجه إلى شنجوكو shinjuku قلب العاصمة النابض، و منها توجب علينا معرفة الاتجاهات الصحيحة للوصول إلى فندق شنجوكو للكبسولات Capsule Hotel Transit Shinjuku، بينما كنا نحاول معرفة الطريق الصحيح عند محطة شنجوكو الضخمة اقترب منا مجموعة من الشباب ببدلات سوداء - الزي الرسمي للطالب- طالبين منا التقاط صورة جماعية لهم، كان ذلك مساء يوم الجمعة الذي سيتلوه يوما الإجازة الأسبوعية و لذلك فقد اكتظت للمدينة بالسياح القادمين من خارج طوكيو إضافة إلى الطلاب و الموظفين الذين يخرجون للسهر و التنزه و ارتياد الحانات، بمساعدة خرائط جوجل مشينا لما يزيد على 20 دقيقة وسط شينجوكو - علمنا لاحقا أنها مأوى العصابات و المافيا- في جو بارد جدا ننظر إلى واجهات المحلات و مطاعم السوشي و الرامن، بلغنا منطقة تمتلئ بالافارقة الذين حاولوا التقرب منا و نداءنا و لكنا اعتذرنا لهم مبتسمين و نحن نسرع بحقائبنا الثقيلة على ظهورنا قبل أن نبلغ فندق الكبسولات، إن نظام تأجير الكبسولات هو أحد ما يميز اليابان، فنظرا لأسعار الفنادق العالية جداً يفضل كثير من السياح السكن في هذا النوع من الفنادق الإقتصادية المكونة من غرف مشتركة تحتوي كل منها على غرف مصغرة جداً بعضها فوق بعض على شكل خلايا نحل و كل غرفة لا تصلح إلا لتمدد الجسم البشري فقط مع منفذ للكهرباء و رف صغير، أما ارتفاعها فهو يصلح للجلوس فقط، بعد استلامنا لمفاتيح الخزانات التي يفترض أن نضع فيها أمتعتنا و لفوط الاستحمام و ملابس النزلاء ذات اللون الموحد صعدنا نحو غرفة الكبسولات التي تراصت فيها ما يقرب من خمسين كبسولة، و لأن حجم الخزائن لم يكن يتسع لوضع حقائبنا فقذ قمنا بوضعها بداخل الكبسولة حيث سننام، في تلك اللحظة اكتشفت فقدان بطاقة ال JRP التي فعت لها مبلغ 100 ريال قبل السفر فانطلقت من فوري عائداً لأقتفي آثار خطواتي و أنا متيقن من أنني لن أجدها، و عندما بلغت منطقة الأفارقة لمحتها من بعيد على الطريق فأحسست بشعور لا يمكن وصفه و عندما التقطتها اقترب مني أحد الأفارقة ليخبرني بأنه رآها منذ فترة، في طريق العودة تم إيقافي مرتين و عرضوا علي - بالتلميح تارة و بالتصريح تارة أخرى- أن أقضي بعض الوقت الممتع مع الجنس الناعم، اعتذرت لهم شاكراً و مضيت لأخبر صديقي الباحث عن الحقيقة عن ذلك.
اليوم السادس

إنه بداية النهار الأول إذن في أرض اليابان، الارض التي يكاد لا يصدق الناس أنها كانت قبل 70 عاماً أطلالا و خرابا و هي الآن قوة اقتصادية عالمية، الأرض التي لم تستسلم ثقافياً للمنتصر بل غزت ثقافتها الكرة الأرضية بالأنمي و ألعاب الفيديو حتى أنني لا ابالغ إذا قلت أنك لن تجد بشريا واحداً على قيد الحياة لم يشاهد مسلسلات الكرتون اليابانية، ابتدأنا يومنا بالتوجه إلى محطة المترو و سألنا عن الخط المؤدي إلى برج طوكيو الشهير، عند وصولنا إلى المحطة المقصودة توجب علينا المشي لما يقرب من ال 20 دقيقة مررنا خلالها بأحد المعابد البوذية و مقبرة تذكارية لأحد عوائل الساموراي الحاكمة قبل 400 سنة، حينما اقتربنا من البرج لفت انتباهنا فعالية كبيرة للأطفال بإحدى المدارس حيث تحلق الآباء و الأمهات مستديرين لمشاهدة المسابقات الرياضية لأطفالهم، مكثنا نشاهد و نصور الألعاب و نشجع مع المشجعين قبل أن نكمل طريقنا باتجاه برج الاتصالات الشهير و الذي استدرنا حوله لندخل الطابق الأول منه، و قررنا عدم الصعود إلى أعلى البرج بما أننا سنذهب بعدها لزيارة البرج الأعلى في طوكيو (شجرة السماء)، قبل وصولنا إلى المخرج استوقفنا ثلاثة من الشباب الياباني يعرضون ثقافة النينجا و يلبسون زيهم الأسود المميز، عرض علينا أحدهم - و هو نصف ياباني كما أخبرنا لذلك يجيد الإنجليزية- أن نشترك في لعبة لرمي نصل النينجا لإصابة الهدف مقابل هدية رمزية، وافق صديقي على ذلك و قاموا بتعليمه طريقة مسك النصل و التصويب، بعد ذلك طلبنا منهم التصوير معنا و تبادلنا الحديث معهم عبر المترجم نصف الياباني حول سيوف الكاتانا اليابانية و نظيرتها العربية، بعد ذلك غادرنا متجهين إلى محطة المترو و منها إلى برج (شجرة السماء)، في الطريق توقفنا بأحد المطاعم العربية و تتاولنا وجبة (كسكسي دجاج) المغربية من البائعة اليابانية المتزوجة من رجل تونسي و هو ما فسر لنا تمكنها من فهم الإنجليزية على غير عادة اليابانيين، قبل خروجنا تبرعنا بعملة عمانية لإضافتها إلى حائط المطعم المعلق عليه عملات من أنحاء العالم، 

في هذه البلاد كما في التي قبلها - الفلبين- لم نصادف شحاتا واحداً على عكس بلدان النور و الحضارة في الغرب، و في محطات المترو يمنع التحدث في الهاتف و يعتبر أمرا منافيا للذوق العام، من محطة الوصول لم تكن مسافة المشي - أو قل الصعود-طويلة، و لم يكن طابور التذاكر طويلاً، كلفتنا تذكرة الدخول2000 ين للشخص (7 ريالات) حتى المستوى الأول ثم ما يقرب من 1000 ين للمستوى الأخير، كان منظر المدينة من ارتفاع يربو على 450 متر بديعا و مهيبا، بعد أكثر من ساعة نزلنا من البرج و قررنا البحث عن مسجد، بعد تبديل خطين من خطوط المترو ثم المشي لما يقرب من نصف الساعة في إحدى الضواحي، وصلنا إلى مسجد معظم مرتاديه من الباكستانيين صلينا الظهر و العصر ثم انتظرنا قليلاً حتى رفع أذان المغرب، بعد الصلاة توجهنا إلى منطقة شيبويا المعروفة بشارعها الكبير ذي التقاطع و شاشات الدعاية الضخمة و الذي يعبره المشاة بالمئات عند إضاءة الإشارة، و من هناك بحثنا عن مطعم فوجدنا مطعم Mamo للشاورما التركية، و لأنه اليوم الاول فقد بلغ من الإنهاك مبلغاً كبيراً فعدنا من فورنا منهين بذلك يومنا الياباني الأول.
اليوم السابع

لم أعلم مدى الجهد الذي بذلناه بالأمس إلا حين صحوت على ضربة من الباحث عن الحقيقة على قدمي ليبلغني بأنها الساعة التاسعة صباحا و أن علينا أن نكون بالخارج بعد نصف ساعة لأجل ملاقاة صديقه الياباني في تمام الساعة العاشرة كما تم الاتفاق بينهما في الليلة السابقة عبر الفيسبوك، كانا قد التقيا قبل 5 سنوات في الهند ضمن برنامج تدريبي للطلاب و لمنتسبي الجامعات من كل أنحاء العالم، في محطة المترو أخذنا بطاقة ب 1500 ين (ما يقرب من 5 ريالات) صالحة للاستخدام ليوم كامل في جميع خطوط المترو ثم في الموعد المحدد كنا قد وصلنا إلى نقطة اللقاء بمحطة kagurazaka حين اكتشفنا وجود محطتين متقاربتين بهذا الاسم و أننا في المحطة الخطأ و هو ما تطلب منا أن نمشي لملاقاته في منتصف المسافة بين المحطتين، حين رأينا (شين سوكي) و هو اسم الصديق تبادلا الأحضان و السؤال عن أحوال الحياة ثم مضينا نحو المعرض التنكري بمنطقة كاجورازاكا حيث الاستعدادات للفعالية التي ستقام بعد 4 ساعات و فيها يتنكر الناس بأقنعة القطط أو يرسمونها على وجوههم، اتجهنا بعدها إلى معبد أكاجي و الذي يعني قصر الرصاص، على مدخل المعبد أوضح لنا شينسوكي كيفية تطهير الفم و اليدين من حوض الماء المرتفع فوق قاعدة أسمنتية، و ذلك باستخدام المغارف الخشبية الموضوعة فوق العوارض المعدنية بأعلى الماء، بعد ذلك أدينا الطقس الروحي الذي يسبق الدعاء حيث على المريد أن يحني رأسه ثم يضرب راحني يديه ببعضهما أسفل ذقنه ثم يتلو أمنيته، عند معرض المشغولات اليدوية بجانب واجهة المعبد رأينا مئات من أوراق الأمنيات مطوية و مربوطة بإطار خشبي ذي أعمدة، في الطريق بعد خروجنا من المعبد سألنا صديقنا الياباني عن سبب عدم تحدث الشعب للغة الانجليزية ما عدا فئة نادرة فأجابنا بأنهم لا يتعلمونها سوى في المرحلة الثانوية قراءة و كتابة و أن من النادر أن يتاح لهم ممارسة التحدث بها خاصة و أن الدراسة الجامعية تكون باللغة اليابانية. 

من أقرب محطة للمترو اتجهنا نحو المول المشهور باسم أكي هبارا حيث تعرض أحدث المنتجات التقنية في الحاسوب و الإلكترونيات و التصوير و الآلات الكهربائية كما قمنا بالمشي في الشوارع المحيطة حيث تكثر محلاث بيع هدايا و اكسسوارات الأنمي، هذه هي الوجهة التي يحرص كل أوتاكو على زيارتها في اليابان (الأوتاكو اسم يطلق على مدمن مسلسلات الأنمي)، من أحد المكتبات قمت بشراء كتابين من القصص المصورة - المانجا- لناروتو و ون بيس. 
بالقرب من محطة مترو أكي هبارا أخذنا صديقنا إلى مطعم للسوشي الوجبة الاشهر في اليابان حيث يقدم الأرز مع السمك غير المطهو بالنار أو الحرارة، خمنت أنه يتم إعداده بإضافة مواد او بهارات معينة و لكن الكسل بلغ بي أنني لم أحاول البحث عن صحة هذه الفرضية، على كل فقد أمسك صديقي نفسه عن التقيؤ بينما تمكنت أنا من الاستمتاع ببعض الأطباق التي تدور في الطاولة الوحيدة وسط المطعم و الزبائن يحيطون بها و يلتقطون ما يريدون من أطباق. 

نحن في طريقنا الآن تحت الأرض نحو القصر الامبراطوري، و في المسافة بين محطة الوصول و القصر عرفنا من شينسوكي بأنه من السهل أن يتزوج ذكور العائلة الإمبراطورية من غير ذوات الدم الملكي بينما الصعوبات تواجه الفتيات حين الرغبة بالزواج من الخارج، من سوء طالعنا وجدنا بأن القصر مغلق للصيانة على ما يبدو فتجولنا في الساحات الخضراء المحيطة به، سألت صاحبنا الياباني عن متوسط الأجر الشهري للمهندسين في اليابان فأجابنا بأنه يقارب الالفي دولار (750 ر. ع) تعجبنا لذلك مع ما نلاحظه من غلاء للمعيشة عندهم، في نقاش لاحق مع صديقي الباحث عن الحقيقة قال بأن حالنا كأفراد أحسن من حالهم و أن إدارتهم و حكومتهم من الكفاءة بحيث جعلت الشعب قادراً على الاستمرار في الحياة بمثل هذا الدخل و في مثل هذا المستوى من المعيشة الغالية. 

بعدها قررنا الذهاب إلى منطقة أكاسكا المعروفة بسوقها التقليدي الذي ينتهي بمعبد كبير، في أثناء مشينا بمحطة المترو سألت شينسوكي عن عدد ساعات العمل لديهم فاخبرنا بأنهم يبدأون من الساعة التاسعة صباحا و حتى الخامسة مساء و أن طبيعة العمل و الثقافة اليابانية تقتضي ساعات دوام إضافية يوميا - ساعة أو اثنتان على الأقل - و قد يكون هذا هو سبب الإنتاجية العالية و النجاح الكبير للصناعة اليابانية رغم ما فيه من تعب و مشقة للعامل حتى أنه صرح بعدم ارتياحه لهذا النمط من العمل لولا ثقافة العمل السائدة، في أكاسكا مضينا وسط الزحام البالغ للسائحين بين أكشاك بيع الملابس و الهدايا و الأطعمة على الجانبين، ثم حين بلغنا نهاية السوق قرب المعبد الكبير و هممنا بالاستدارة للرجوع، تلقفنا 3 من الشباب الياباني في حالة سكر و زجاجات الخمر بأيديهم، دخلوا معنا في حديث مملوء بالضحك و هم يسألوننا من أين نحن و يبدون إعجابهم بعمان و يطلبون التقاط الصور معنا، كانوا يعرفون بضع مفردات من الإنجليزية و قد جعلهم الخمر مبسوطين لدرجة كبيرة، ودعونا بحرارة لا مثيل لها - أم ترانا نحن الذين ودعناهم؟ - ثم قفلنا راجعين. 

باتجاه محطتنا الاخيرة و هي قبة طوكيو عرض صديقي على شينسوكي أن يعطيه بطاقة اليوم الواحد ليستخدمها في خطوط مترو JR بدل أن يصرف من بطاقته الخاصة و التي يقوم بتعبئتها كل فترة لأجل استخدام المترو، بينما يستخدم هو بطاقة ال JR المجانية لسبعة ايام في خطوط شركة JR، و قد قبل العرض شاكرا، إن من يرى مستوى المعيشة هنا لا يمكنه أن يلومه على ذلك، وصلنا إلى القبة الكبيرة و التي هي في الحقيقة ملعب لكرة القاعده (بيسبول) الرياضة الأولى في اليابان، و يتسع لآلاف المشاهدين كما يوجد بداخله الكثير من المطاعم و المحلات، حين وصلنا كانت الساعة الخامسة عصرا فوجدنا الملعب المقبب - أو قبة طوكيو- مغلقا و بالجوار رأينا الملاهي الضخمة و أصوات الصراخ تنبعث من داخلها لتنافس أصوات العجلات و هي تهوى بالعربات في المسار الحلزوني المرعب، كانت ظهورنا و أرجلنا تئن مطالبة ببعض الراحة بعد المسافات الطويلة التي قطعناها منذ الصباح و الطلوع المتكرر لسلالم محطات المترو، فجلسنا على المقاعد بالساحة الخارجية للقبة و تبادلنا أطرافا من الحديث ثم اتجهنا إلى المحطة القريبة من القبة فودعنا صديقنا الياباني و شكرناه عل حسن وفادته و مرافقته لنا و التي أفادتنا كثيرا حيث تمكنا من التواصل مع الاخرين بسهولة.

حين وصلنا إلى مسكن الكبسولات كانت بطوننا قد استلمت الراية من ظهورنا لتطالب بحقها، فتطوعت بالمشي - بعد استشارة العم جوجل- إلى مطعم هندي قريب، اجتزت الشوارع المزدحمة و الأزقة الخلفية التي يرى العم جوجل بأنها أقصر الطرق المؤدية إلى وجهتي، و حين وصلت الى المطعم المتواضع رأيت رجلاً و امرأة يابانيان ينتهيان من تناول الطعام و قبل قيامهما خاطبت المرأة النادل ذي اللحية القصيرة بعبارات الشكر العربية و الاوردية و قد استجاب لها باللغتين موضحا الفرق بينهما، سألته بالعربية إن كان باكستانيا فأجاب بأنه هندي و انفرجت أساريره حين علم أنني عماني و قال بأنه قد عاش 12 سنة في عمان (إبراء و قريات) ثم مضى يخبرني عن أسماء من يعرفهم هناك و قد قابلت ذلك بابتسامة عريضة قبل أن أتناول برياني الدجاج من عبدالملك - و هو اسمه- ثم أعود إلى فندق الكبسولات سالكا نفس الطريق من الشارع السريع المزدحم ثم الأزقة الخلفية للأحياء السكنية، لينتهي يومنا مرتاحي البال و البطن.
اليوم الثامن

تعجبنا من رؤية بعض الناس يسعون إلى العمل على ما يبدو بينما كنا نتجه نحو محطة المترو في الصاح الباكر، قد يكون نظام دوامهم مختلفاً عن السائد أو أنهم يعملون بنظام المناوبة أو ربما هي الساعات الإضافية التي تجعل الياباني يابانيا!!! 
سابقا قبل يومين و باستخدام بطاقة JRP كنا قد حجزنا القطار المتجه إلى كيوتو لذلك فقد توجهنا إلى محطة مترو shin okubo و منها إلى محطة شيناجاوا حيث توجد محطة القطارات و أشهرها قطارات الطلقة shinkansen و سنمتطي ظهر أحدها بسرعة اكثر من 250 كم/س، بعد السؤال و إظهار بطاقات الحجز وصلنا إلى منصة الانطلاق و كان يتحتم علينا الانتظار 20 دقيقة، عند جميع منصات القطار و المترو في اليابان يوجد مسؤول لتنظيم الركاب و للاستعلامات كما يشتهر أن من مسوولياتهم كذلك كنز الركاب في اوقات الذروة، كذلك يشاع أن عليهم منع جميع من تسول له نفسه أن يرمي بجسده أمام القطار ر هي هواية محببة لدى الشعب الياباني، كنت قد ناقشت مع صديقي الباحث عن الحقيقة هذه الظاهرة التي يبالغ البعض في وصفها لدى اليابانيين، و قال بأن المستويات المرتفعة هنا مقارنك بأوروبا مرجعها إلى وجود العزاء و وعود التعويض الاخروي عند الأوروبيين لمن أراد الرجوع إلى الدين الموضوع بعيداً عن مجريات الحياة و لكن في اليابان - حيث يوضع الدين بعيداً عن الحياة كذلك- لا يوجد إيمان بحياك بعد الموت لمن أراد الرجوع إلى الدين، في حديثنا بالأمس مع صديقنا الياباني أخبرنا بأنه اعتاد تمضية الإجازات الاسبوعية في ألعاب الفيديو أو الخروج مع الأصحاب، رأى صاحبي بأن الشعب هنا مبرمج ليصبح آلات عمل و إنتاج و أنهم لا يملكون أي غاية من وراء الحياة، اختلفت معه في الرأي و لكن حافظت على طبيعتي بعدم الإكثار من الجدال، حين وصل القطار لم ننتبه إلى أن علينا أن ننتظر الدقائق العشرين و ركبناه و نحن نحسب أنه قطارنا، لم ننتبه إلى غلطتنا إلا بعد أن تحرك القطار و قد فات أوان التراجع، حين جاءت موظفة التذاكر توقفنا عن الضحك من حماقتنا و وضعنا أقنعة البراءة على وجهينا و نحن نريها التذكرتين، أوضحت لنا اللبس الذي وقعنا فيه و ارشدتنا بتهذيب إلى ضرورة المغادرة في المحطة، القادمة و هو ما فعلناه و قمنا بانتظار قطارنا الذي سيتوقف بعد دقائق بنفس تلك المحطة. 

في الساعتين و النصف باتجاه كيوتو مررنا بالبساط الأخضر و الجسور و الأودية الضحلة، و قد استغللت الوقت لأدخل في نقاش مع الباحث عن الحقيقة حول المحتوى المرئي في الإنترنت مقارنة بالمحتوى المكتوب و أيهما يغني معرفيا أكثر عن الآخر، كان رأيه لصالح المرئيات بينما ملت أنا لصالح المكتوبات نتيجة ما ألحظه شحصيا من توفر الكثير من المعلومات و الأفكار المكتوبة مقارنة مع تلك المشاهدة، و كذلك تطرقنا إلى النقاش حول التمثيليات و مدى تمكنها من منافسة الأدب و الروايات و قددفعني إلى هذا التساؤل ما لاخظته من تطور و تدرج في الادب الياباني من المكتوب إلى القصص المصورة - المانجا- ثم الأنمي المسجل مرئيا. 


حين خفف القطار من سرعته و نحن نقترب من محطة كيوتو لاحظنا أن قطار الطلقة حين يمر بنا - و نحن نقترب من التوقف- يهز قطارنا بسبب السرعة العالية جدا، بعد نزولنا من القطار نباشرة و في أثناء توجهتا لسلالم مغادرة منصة الانطلاق كنا قد عدنا مرة أخرى إلى موضوع المعنى من الحياة لدى الشعوب اللادينية، و قد ذكر صديقي الباحث بأن التعريفات لمصطلح (الانسان) هو أنه الكائن الذي يمكنه ان يتساءل عن الغاية من وجوده، فلا يوجد كائن معروف غيره يطرح هذا السؤال على نفسه، ثم ذكر بأن عالم الحيوانات الشهير دوكنز يرى بأن هذا سؤال غبي و أن الإنسان ليس ضروريا أن يكون لوجوده غاية، كذلك ذكر لي مقولة أحد المخرجين المشهورين بهولييود الذي قال بأن صناعة الأفلام تهدف إلى إيجاد معنى للحياة، و ربما كان صديقي يقصد أن هوليود تقوم بمعالجة مسألة البحث عن معنى للحياة عند الغرب. 

من مركز الاستعلامات السياحي أخذنا خريطة المدينة و خطة مقترحة لزيارة ثلاثة من الأماكن السياحية في 5 ساعات، قررنا شراء التذكرة المفتوحة ليوم واحد و قد اخترنا تذكرة الحافلات بسبب وصولها بالقرب من الأماكن السياحية بعكس بطاقة المترو التي تتطلب الكثير من المشي من المحطات، كانت تكلفة التذكرة المفتوحة 600 ين للشخص (ريالين) و ركبنا الحافلة إلى وجهتنا الأولى و هي معبد kinkaku ji الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 600 عام و كان معبدا لأتباع ديانة الزن المنبثقة من البوذية و التي تركز على التأمل و سبر أغوار النفس، بعد عبورنا المدخل الرئيسي استوقفنا رجل و معه ثلاثة فتيان و الأربعة يلبسون ثيابا سوداء يابانية، قدم لنا نفسه و سألنا عن أسمائنا و موطننا، ظننا أنه معلم مع تلاميذه و لكن حين سألناه أخبرنا بأنهم أولاده و طلب منهم تقديم أنفسهم لنا، ثم التقط صورة لنا معهم، كانت انجليزيته ضعيفة و قلنا لعله أراد تعليمهم الآداب العامة أو طريقة تقديم أنفسهم بالإنجليزية، بعد تجولنا في الفناء الواسع جداً حول المعبد بأشجاره و مناظره الجميلة و التقاطنا لعشرات الصور، غادرنا المعبد و كان صديقي قد لاخظ زوجين روسيين تصحبهما مترجمة و مرشدة من بنات جنسهما - حسب استنتاجه طبعا- هذه الملاحظة قادت صديقي الباحث إلى الاستطراد في مدى البذخ الذي يمتاز به الروس و أنهم يسافرون بميزانية تبلغ أضعاف ما يحتاجه السفر العادي، كما قد يصل بهم الترف إلى حد ذفع المبالغ الطائلة لوكالات المرسيدس و غيرها مقابل أن تبيعهم طراز السيارات الذي سينزل إلى الأسواق بعد سنتين، كذلك استرسل في الحديث و وصل لوصف الكاريزنا ر قوة الشخصية التي تميز الرئيس الروسي بوتين و الذي يذكره بالشخصية القوية للاعب إبراهيموفيتش و الذي يمتلك ثقة كبيرة بالنفس لحد وصف نفسه بأنه السبب في شهرة بلاده. 

بالخارج توقفنا لشراء الايسكريم من أحد الآلات - و اليابان تشتهر بالالات التي تبيع ليس فقط المرطبات بل كذلك كثير من السلع الأخرى أيضا لا أنسى أن أذكر ان الشاي الأخضر هو أشهر النكهات الصناعية بداءا من الايسكريم و انتهاء بقهوة ستار بوكس- كان هنالك طلاب مدارس خرجوا في فسحتهم و وقفوا ينظرون إلينا، بالحوار اقتربت ظالبتان من سائحة و تح ثتا معها ثم طلبتا التقاط صورة معها، في نفس الوقت كان الطلاب الذكور ما زالوا يتهامسون و يختلسون النظر الينا فخمنا أنهم قد اوكلوا بمهمة من المدرسة تتعلق بالسياحة أو بممارسة اللغة الإنجليزية. 
 بعد ذلك واجهنا ساعتين من الضياع في سعينا للوصول إلى استوديو كيوتو الشهير Toei Kyoto Studio فتنقلنا من حافلة إلى أخرى حتى وصلنا إلى أحد الضواحي البعيدة على أطراف المدينة، ثم اضطررنا للانتظار لما يقزب من نصف الساعة حتى تمر الحافلة فقررنا تبديل وجهتنا - التي تستوجب مشيا طويلاً من أقرب موقف للحافلات- و شددنا الرحال إلى قلعة Nijo و التي كانت يوما ما مقر الحكم الإمبراطوري، بعد أخذ التذاكر (600 للشخص) دخلنا إلى القلعة الكبيرة جدا بمناطقها الثلاثة و الحدائق الواسعة و قنوات المياه بداخلها، توجد تماثيل للحاشية الإمبراطورية حينذاك تجلس على الأرض بالطريقة اليابانية الشهيرة، القلعة محاطة بالمياه من جوانبها الأربعة و عندما تصعد السلالم لتعتلي الجدران المحيطة بالقلعة تبدو لك و كأنها جزيرة وسط الماء. 

نظراً إلى أننا قد اخترنا حجز تذكرة العودة إلى طوكيو لتكون بنفس اليوم، لم نكن نملك الكثير من الوقت لذلك توجب علينا الإسراع إلى وجهتنا التالية و التي كانت غابات البامبو، أسرعنا المشي باتجاه محطة الحافلة التي دلنا عليها الشيخ جوجل حتى كادت سيقاننا أن تتفلق، و لكن ما إن وصلنا حتى تفاجأنا بأن الحافلة حمراء و لا تشملها التذكرة المفتوحة، وصلت للحافلة التالية بعد انتظار طال لننصدم بأنها حمراء كذلك، قررنا استخدام المترو حيث يمكن استخدام أحد خطوط شركة JR لتنزلنا قريبا من الغابة فاتجهنا إليه، و هنا وقعنا في الخطأ الثالث حيث ركبنا القطار السريع Express و لم ننتظر القطار الداخلي local لينتهي بنا المطاف مجدداً في أحد الضواحي البعيدة من كيوتو، نزلنا و سألنا الموظف عن منصة العودة فدلنا عليها كان وقت وصول القطار قريباً و لكن هذه المرة انتبهنا لحسن الحظ بأنه القطار السريع لذلك لم نركبه و انتظرنا وصول القطار الداخلي، و نظراً لأن الوقت قد بدأ يدركنا فقد قررنا العودة إلى طوكيو، و ذهبنا إلى شباك التذاكر حيث تتيح لنا بطاقة JRP تقديم موعد مغادرتنا و فعلا ركبنا أول قطار مغادر باتجاه طوكيو و التي بلغناها حوالي الساعة السابعة لنشهد نهاية أول يوم عمل في الاسبوع، حيث تجتاح أمواج من الأجساد البشرية قطارات القطار و المترو و تكتنر العربات بالخارجين من دواماتهم بعد يوم عمل ذي ساعات إضافية كالعادة، لقد شهدنا بأم أعيننا العبودية الحقيقية للرأسمالية في اليابان حيث ينتهي اليوم على العامل قرب وقت النوم، يقول صاحبي بأن اليابانيين لم يكن لهم خيار بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية إلا أن يكونوا أمة منتجة من العاملين تدفعهم لذلك عزة النفس الجريحة و أن ما حدث لهم من نهضة هو أمر طبيعي جدا. 
من محطة شينجوكو توجهنا مباشرة إلى شيبويا و بالتحديد إلى مطعم mamo للشاورما حيث وجدنا البائع التركي مجدداً و تحدثنا إليه هذه المرة، لقد جاء إلى اليابان قبل 10 أشهر و هو متزوج من امرأة يابانية. في أثناء عودتنا و خروجنا من مخطة المترو و عندما كنا نقترب من الفندق انتبه صديقي الباحث أنه قد نسي هاتفه في طاولة الحساب بسوبرماركت دخلناه قبل دقائق، فرجعنا بسرعة تكاد تبلغ حد الركض و اتضح أن الحظ كان في جانبه إذ وحد هاتفه عند البائعة، شكرناها ثم عدنا إلى السكن لنباشر عملية النوم التي لا يمكن وصفها.

اليوم التاسع

في تمام التاسعة و النصف صباحا كنا في محطة شينجوكو حيث قمنا في شباك تذاكر JR بالسؤال عن القطار الذاهب إلى منطقة جبل فوجي - يسميه اليابانيون فوجي سان أي السيد فوجي - و هذه المرة حرصنا على عدم ارتكاب الأخطاء و التأكد من الوقت و رقم القطار و هو ما كان، و من مكاننا في المقعدين جنب النافذة أمكننا رؤية المزيد من جمال الطبيعة الياباني بينما كنا كالعادة نتكلم في شتى المواضيع لتزجية الوقت، و أذكر من بين تلك المواضيع حديث الباحث عن الحقيقة عن التردد الطبيعي، و هو أحد ألغاز الكون الكبري و الذي لا يمكن الجزم بالغاية من وجوده، فلكل جسم أو شيء أو شخص تردد طبيعي يصدر منه ناتج عن اتساق ذراته و جزيئاته بالطريقة التي تشكله و تعطيه مظهره، في التصميم الهندسي يحسب المهندسون ألف حساب للتردد الطبيعي لأن أي نظام سيتهاوي إذا ما تعرض لتدخل خارجي له نفس تردده. 

في تمام الساعة 11:30 نزلنا في محطة أتسكي Otsuki و قمنا بشراء تذكر القطار المتوجه إلى كاواجوتشيكو - لا تصل قطارات JR إلى هناك- بمبلغ 1000 تقريبا للشخص، كانت المحطة صغيرة و تمكنا بسهولة من أن نجد القطار قديم الطراز و الذي جلس فيه الركاب على مقاعد متقابلة بالجانبين الممتدين للقطار، الأرضية الخشبية و الرسومات الكرتونية على السقف و الجدران تعطي الراكب إيحاء جميلا بزمن القطارات البخارية كما نراهازفي الأفلام و المسلسلات، لاحظنا وجود عدد من الأجانب بملابس و معدات التسلق، لم تكن مدة اقامتنا تسمح لنا بممارسة هذه الرياضة الاستكشافية التي نعشقها و نمارسها كثيرا في عمان، فقد كانت وجهتنا تقتصر فقط على كاواجوتشيكو و هي المنطقة السياحية الواقعة على المنبسط القريب من قاعدة فوجي بتلالها المرتفعة المطلة على البحيرات الجميلة، بعد تخزك القطار استئنفنا رحلتنا مقتربين من السيد فوجي (فوجي سان) حيث لاحظنا تغير البيئة و المناخ و التضاريس بل حتى ملامح وجوه الناس و الوانهم لتتعاون جميعها و تعطي إيحاء بالعلو و البرودة و الجمال الاستثنائي، استغرقت رحلة القطار ثاني ساعة أخرى تحدث فيها صاحبي عن الإشعاع الأرضي - بمعنى اختزان الأرض للطاقة الحرارية الشمسية- و الذي يقل بشكل كبير جدا في الجبال بسبب مساحتها الصغيرة مقارنة بالسهول و هو ما يسبب تدني درجات الحرارة في المناطق الجبلية، عند وصولنا إلى محطة كاواجوتشيكو أخذنا تذكرة مفتوحة ليوم واحد قيمتها 1500 ين للشخص - 5 ر. ع - تخولنا استخدام المسارات الخمسة للحافلات - الأحمر و الأخضر و الأزرق- و اتجهنا بالحافلة الحمراء مباشرة- باستدارة حول البحيرة - إلى النقطة التي سنعود منها بالتلفريك أو ropeway كما يسمونه و اشترينا تذكرة عودة بقيمة 800 ين للشخص من آلة بيع التذاكر ثم صعدنا قمة الجبل لنطل على بحيرة كاواجوتشيكو و مدينة الملاهي المحاذية لها، من سوء حظنا أن الجو كان مغيما و لم نتمكن من رؤية القمة البيضاء لجبل فوجي المقابل لنا إلا لفترات قصيرة ظهر فيها على استحياء و هو محاط بالغيوم، لاحظنا أن الكثير من أطفال المدارس يتوافدون إلى الأعلى بضجيجهم العذب، نزلنا بالتلفريك إلى محطة الحافلات و ركبنا الخط الأحمر مجدداً متجهين إلى نهاية الخط حيث المركز الحيوي و هو حدائق للازهار و الورود الجميلة على حافة البحيرة، في أثناء مشينا و تصويرنا للزهور الجميلة عاود السيد فوجي اطلالته من بين الغيوم فاغتنمنا الفرصة لاقتناص بعض الصور له، عدنا بعد ذلك لركوب الحافلة و اتجهنا إلى مطعم علاء الدين طمعا في تذرق الاكل الهندي و لكن أملنا خاب حين وجدناه مغلقا و سيعاود الافتتاح بعد ساعة، استقبلنا البحيرة التي تتلحف بالسماء الغيمة منذ يوم وصولنا و تناولنا بعض الخفائف التي اشتريناها من سوبرماركت قريب، أحسسنا بازدياد شدة البرد فانطلقنا نحو أقرب محطة للحافلات و لم نلبث طويلاً حتى عدنا إلى نقطة البداية عند محطة القطار، هممنا بركوب الخط الأخضر و لكن البرد الشديد اقنعنا بأن الوقت قد حان للعودة إلى طوكيو فقمنا بشراء تذكرة العودة إلى أكتسي ثم من هناك طلبنا تغيير قطار العودة و ركبناه بعد دقائق معدودة، أعطينا مقعدين منفصلين بسبب امتلاد المقاعد فجلست بقرب سيدة يابانية تضع كمامة على وجهها - و هو أمر شائع هنا لدواع صحية على ما يبدو- ثم امضيت الساعة التي يستغرقها القطار للوصول إلى طوكيو في كتابة المذكرات و تذكرت أحاديث ث الباحث عن الحقيقة صباحا و التي كان من بينها مقارنته بين المقاتلة الامريكية F35 القادرة على الاقلاع العمودي و التي تبلغ سرعتها 1.5 ماخ - مرة و نصف سرعة الصوت- في مقابل نظيرتها الروسية سوخوي 35 التي تبلغ سرعتها 3.5 ماخ. 
عند وصولنا إلى محطة شينجوكو و نزولنا من محطة القطار باتجاه منصة المترو أصبحنا كنقطة في بحر متلاطم الأمواج من الأجساد البشرية، بعد تجاوز الساعة السابعة يكون الموظفون قد أنهوا ساعات عملهم الإضافية فتجد القطارات و المحطات و السلالم مزدحمة جداً، إنها العبودية الحديثة في أوضح تجلياتها حيث لم يبق سوى ساعة أو اثنتين على موعد النوم، أي أن خمسة أيام في الأسبوع يكاد يقضيها الياباني بين الدوام و النوم، أصحيح أن الظروف هي من أجبرت هذا الشعب على البذل و الإنتاج بهذا الشكل كما يرى صاحبي؟ أم أن الولاء و الانتماء للوطن هو الدافع لذلك؟
نزلنا في محطة Shun Okubo ثم اتجهنا إلى المطعم الهندي لنجد عبدالملك مجددا و يحدثنا عن حياته في عمان التي غادرها قبل 12 سنة و عن خطته للعودة إليها بعد 5 سنوات، دخل رجل هندي آخر و سلم علينا، أخبرنا أنه يعيش في اليابان منذ 25 سنة و أنه يملك شركة للشحن و التصدير إلى بلدان كثيرة من ضمنها دبي التي يشحن إليها السيارات، غادرنا عائدين إلى السكن و نحن نفكر في خيارات الأماكن التي سنزورها في اليوم الأخير لنا.
اليوم العاشر
كان الاستيقاظ من النوم في اليوم الأخير ثقيلاً جداً، رغم ساعات النوم الطويلة فلقد أحسست بالخدر في جميع أنحاء جسمدي، انتهت استعداداتنا للخروج و في اللحظات الأخيرة قررنا استبعاد ديزني لاند خوفاً من طوابير الانتظار الطويلة بالداخل، و قررنا زيارة منطقة Ueno المشهورة بالمتاحف و الحدائق، في الطريق إلى قطار المترو قلت لصاحبي بأن حب اليابانيين لصبغ شعرهم له علاقة بوجود هذه الظاهرة بكثرة في مسلسلات الأنمي و ليس مستبعدا أن يكون للشركات المصنعة للصبغات يد في ذلك، قال لي بأن لون بشرتهم لا يتنافر مع هذه الصبغات بعكس شعوب أخرى، كذلك لاحظت بأن كثيراً من تسريحات الشعر تتطابق مع ما نشاهده في الأنمي، نزلنا في محطة أوينو و اتجهنا مشيا إلى المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، استقبلنا نموذج لقطار بخاري قبل المدخل، دفعنا 640 ين لشراء تذكرة الدخول - للشخص الواحد- ثم انتقلنا من طابق إلى آخر لرؤية صالات العرض للاحافير و الحيوانات المحنطة ثم المجاهر و التلسكوبات و الساعات العتيقة، و مجسمات لعرض التنوع الحيواني و البيئي، كان المعرض يغص بطلاب المدارس من شتى المراحل، كان المبنى مخصصا لعرض تاريخ العلم في اليابان خصوصا، ثم انتقلنا إلى مبنى آخر ذي طوابق أكثر و يعرض للعلوم بشكل عام في أنحاء الكرة الأرضية، في الطابق الثالث تحت الأرض تم عرض أشهر العلماء و المخترعين اليابانيين و حائزي جوائز نوبل، في هذا المبنى لم نجد أي ترجمة بالإنجليزية رغم أن المحتوى العلمي و المجسمات و النماذج يبلغ عددها أضعاف ما في المبنى الأول، أحلى ما في الزيارة هو الرفيق الذي كان أشبه بالدليل الناطق بأسلوبه السلس في شرح مختلف النظريات العلمية كالمسارات البيضاوية للالكترونات و مدارات الكواكب و هي المسارات الناتجة من تداخل قوة الطرد المركزي مع اتجاه عزم الدوران، قضينا ما يقرب من الساعتين في المتحف قبل أن نغادره باتجاه حديقة أوينو العامة التي يطل عليها مبنى متحف طوكيو الوطني الذي لم تتح لنا فرصة زيارته، في ساحات الحديقة و تقاطعاتها انتشر الاستعراضيون بالآتهم و ألعابهم و قد تحلق حولهم الجمهور و لكن اللغة لم تسعفنا بطول الانتظار لمعرفة فحوى معظم تلك الاستعراضات، قمنا أيضاً بالتقاط بعض الصور بجانب تمثال هرقل في أخد ساحات الحديقة قبل أن نتجه إلى المحطة و قد قررنا أن نختم جولاتنا في ذلم اليوم الأخير بقليل من التسوق و شراء الهدايا البسيطة من شينجوكو قلب طوكيو النابض، و هو ما كان فعلاً و لكن بعد أن حجزنا قطار العودة بالغد و المتجه إلى مبنى مطار ناريتا الدولي. 

بعد الصلاة و أخذ القيلولة في الفندق غادرنا لإلقاء النظرة الأخيرة في ربوع شينجوكو و توديع شوارعها المزدحمة، مررنا أولاً بأحد محلات بيع ال (هوت دوج) و هي أكلة يابانية شهيرة تتكون أساساً من جبن الموزريلا مع العجين يتم قليها في حوض من الزيت و تقديمها في حطبة لتتخذ شكل عود الذرة، تسوقنا و قمنا بشراء بعض الهدايا و أخذنا الشاورما الأخيرة من بلاد الساموراي ثم في طريق العودة صادفنا تجمعاً لبضعة شباب ياباني بأحد الأزقة مررنا بالقرب منهم و تجاهلت نظراتهم إلينا و نحن ننعطف باتجاه الشارع العام بينما أكد صاحبي بأنه لاحظهم يقتربون منا و نظراتهم مركزة علينا بشكل غير مريح، ذكرني ذلك بأحد سلاسل المانجا بمكتبة الفندق باسم HEAT و التي تجري أحداثها في العالم السفلي لشينجوكو حسب ما تقوله الويكيبيديا، لم أكن أتوقع يوماً أنني سأصل إلى الفناء الخلفي لأحد أشهر عصابات المافيا في العالم و هي الياكوزا اليابانية.

Monday, January 8, 2018

أهداف و غايات الحياة

هذا الإنسان كائن متطلب جدا .. و الحياة أقصر من أن نهدرها في تمني ما ليس لنا .. ماذا أريد من هذه الحياة؟؟
١- أريد ان اقرأ اكثر .. أريد وقتا إضافيا لقراءة ما لم أقرأه و لأجوب آفاق المعرفة التي لم يبلغا ناظري بعد و أن احلق في سماوات الخيال و أتذوق ثمرات العقول المختلفة ..  أعلم أن هذا سيكون على حساب تواصلي مع المحتمع من حولي و لكن ظمأ المعرفة بداخلي أقوى من أن أقاومه.

٢- أريد ان أزور كل شبر في هذه الارض و أن اتوحد مع الطببعة مترحلا بين الشواطئ و الجزر و الجبال و الغابات و الأودية .. أريد أن استكشف ثقافات جديدة و اتعلم لغات أخرى .. أريد أن تكون حياتي سلسلة من المغامرات و الاستكشاف .. أريد ان تجحظ عيناي و تتسعان لأبعد مدى و أنا أحس بمتعة المغامرة .. كم هو رائع الإحساس بمستويات الأدرينالين المرتفعة و مضخات الغدد أسفل الظهر.

٣- أريد أن أمارس كل رياضات القوة و التحمل و التحدي و الفنون القتالية و الفروسية و الغوص و الرياضات الخطرة كالتزلج و القفز المظلي و ركوب الأمواج و الطيران الشراعي.. لا أظن ان نعمة الجسد السليم تستحق ان تهدر في الكسل و الراحة و اكتساب الدهون و تجميع الأمراض.

٤- أريد ان اشاهد مئات المسلسلات و الافلام و الأنمي بمختلف تصنيفاتها .. الدراما و الحركة و الإثارة و الغموض و الخيال العلمي و القتال.

Friday, December 22, 2017

جدي و أنا .. المثال و الواقع

لقد ترك لي جدي تركة و حملا ثقيلا هو اسمه الثنائي الذي يطابق اسمي الثنائي .. و مع سمعته و صيته الذائع و ما كان له من مكانة في المجتمع فإنني أقف متوجسا حين المقارنة بي فأنا كائن منطو و أحب العزلة و لست كائنا اجتماعيا.
محمد بن حمدان ما مات .. كم تكررت لدى مسامعي هذه العبارة منقولة عن عدة أشخاص عندما يريدون القول أن قضية ما مما ناضل جدي في سبيلها لم تمت و أنهم موجودون لاستكمال النضال .. ربما يجهلون أن محمد بن حمدان حي يرزق و لكنه ليس نفس الذي بذاكرتهم .. كان جدي مثالا للصلابة و الكفاح و الرأي السديد كما أنه كان واعيا للحياة و مدركا لما في النفوس.

أما انا فأحب أن اعيش بالحد الأدنى من المعارف فلست أحب المعارف السطحية .. إما صداقة وثيقة أو لا شيء بتاتا .. أحب العزلة أكثر من الاجتماع فأنا من عشاق الأكسجين و ليس ثاني أكسيد الكربون.. كم أنفر من المراسم الاجتماعية و التجمعات البلدية و كل ما شابهها.

سامحني يا جدي .. فبقدر ما أنا فخور بك و باسمي الذي يطابق اسمك فإنني لا املك إلا التسليم باختلافي عنك و الذي أظنك ستتفهمه كثيرا.