اليوم الأول
حين يأتيك النعاس و أنت معلق على ازتفاع 5 آلاف قدم في الجو تحس لوهلة بتداخل بين عالم الواقع و عالم الحلم، ثم لا تلبث أن تكون الغلبة لعالم الواقع مع الصخب المجاور لطفل و أمه ، و هناك في عالم الطيران حيث تحسب المسافات الأفقية بالأمتار بينما تحسب المسافات العمودية بالأقدام، احتشد مئات من الركاب في أسطوانة الضغط المسماة (طائرة) لينشأ مجتمع صغير مؤقتا، تقوم فيه علاقات عابرة و له مؤونته الخاصة من الغذاء، في ذلك المجتمع الطائر فوق السحب أمضيت جزءا من الساعات التسع قبل الوصول إلى عاصمة الفلبين في حوارات مع صديقي (الباحث عن الحقيقة)،
جزر الفلبين.. المسستعمرة الإسبانية سابقا هي الآن على رأس قائمة الوجهات السياحية العالمية، للوصول إليها من مسقط يجب أن تخسر 4 ساعات من عمرك هي فارق التوقيت بين البلدين على أمل استعادتها إذا ما رجعت يوما ما إلى بلادك، هناك بالأعلى جرت لي أحاديث مع صديقي الباحث عن الحقيقة حول عدة مواضيع كان ابرزها النظرية النسبية لأينشتاين التي شرحها صديقي شرحا مسهبا كالعادة ثم استعرض فيزياء الكم و النظريات المثيرة حولها كفرضية فاينمان حول احتمال أن يكون هذا الكون بأكمله لا يتجاوز مجرد ذرة واحدة توجد في عدد لانهائي من الأمكنة في كل لحظة و كيف أن هذه النظرية يمكن ربطها بفرضية الخلق المستمر و المتجدد للمادة كما قال بها بعض الفلاسفة و علماء الكلام.
أما نظرية التطور الداروينية فقد نسج (الباحث عن الحقيقة) قصة مثيرة على منوالها لغرض توضيح كيف استخدم علماء الأحياء و الاحافير ملاحظاتهم في بناء نظرية التطور و القصة هي كالآتي:
لنتصور مخلوقات فضائية وصلت إلى كوكب الأرض و كان لهؤلاء الفضائيين تركيب حيوي مختلف عنا بحيث لا يمكنهم ملاحظة النشاط الحيوي - البشري و الحيواني و النباتي- بل كل ما يرونه هو الهياكل المعدنية المتحركة لما نسميه نحن السيارات و الطائرات و المعدات و الآلات ، سوف يلاحظ الفضائيون وجود عنصر كيميائي - الحديد بتسميتنا- يتحول من طور المادة الخام إلى طور السبائك المعدنية ثم يتفرع إلى عدة أنواع متحركة (طائرة - سياره - باخرة - طابعة- مدينة ملاهي.. الخ)، سوف ياتي أحد أذكى العلماء الفضائيين بنظرية مبنية على الملاحظات السابقة و تقول بأن مادة الحياة الأساسية في الكرة الأرضية هي الحديد التي تمر بمراحل تطورية عجيبة جدا بدءا من المناجم إلى المصانع حتى تبلغ درجة معقدة من التطور - الآلات- لا يمكن تفسيرها إلا بالصدفة ثم سيلاحظ عالم حاذق آخر من الفضائيين وجود نوع من المركبات الكيميائية الغريبة التي من الصعب رصدها من قبل الأعضاء الحسية للفضائيين و لكنها تصاحب كل عملية تشكل و تطور لعنصر الحياة هذا - الحديد- و أن وجود هذه المركبات الكيميائية بداخل كل كائن حي (سياره - طائرة) هو أمر ضروري لأجل أن تدب فيه الحياة، لا يعلم الفضائيون أن لهذه التراكيب الكيميائية المحيرة وعيا و ذكاءً و أنها تسمي نفسها بال(بشر). سوف يحصل العالمان الفضائيان على جائزة نوبل في مجرة ألفا قنطورس بسبب اكتشافهما للمواد الكيميائية التي تسهم في جعل الحديد حيا و متحركا في الكوكب الخامس من المجموعة الشمسية و ستتوالى الأبحاث لترصد و تسجل أن هذه المركبات الكيميائية - البشر- تبدأ حياتها ضعيفة ثم يتضاعف حجمها و تصبح قوية و فاعلة لفترة من الزمن قبل أن تتراجع و تعود ضعيفة من جديد و تموت، سيكتشف الفضائيون كذلك وجود أحافير و هياكل مندثرة للسفن و السيارات.. المعذرة..أقصد لأشكال الحياة على الأرض كذلك سيلاحظون مسيرة التطور التاريخية لهذه الأنواع الحية حيث يتم تحسينها و تنشأ أنواع جديدة بعملية التطور.
تذكرت هذه القصة - و الحوارات الأخرى مع رفيق رحلتي الباحث عن الحقيقة- بينما كنا نغادر متن الطائرة باتجاه طوابير ختم و تخليص جوازات المسافرين و التي كانت سريعة لدرجة لا تصدق مقارنة بدول سياحية أخرى، بعد شرائنا لشرائح الهاتف من صالة القادمين ثم خروجنا من بوابة المطار وجدنا الظلام الحالك في انتظارنا، الظلام الذي احتوى على سيارة الأجرة و سائقها الذي كان بانتظارنا، لأجل طلبه كنا قد استخدمنا تطبيق الهاتف Grab و الذي يعطيك خيارا رخيصا لطلب سيارة أجرة مشتركة مع ركاب آخرين، و فعلا توقفت السيارة لتقل سيدتين فلبينيتين ركبتا بالخلف في السيارة العائلية.
حين تطأ قدماك مدينة جديدة في سفرك يستبد بك الفضول فتمضي في تأمل معالمها لتأخذ انطباعا مبدئيا عنها و لكن أستار الليل الحالك تمنعك من النجاح في هذه المهمة، فلا يبقى أمامك سوى الصمت بانتظار بلوغ محل الإقامة و استرجاع ذاكرة بعض الأحاديث الأخرى مع رفيق السفر كموضوع العمل و كيف أن راتبك تستلمه بناءً على ثقة رب العمل في صواب حكمك و اتباعك لشعورك و منطقك الخاص فيما يتعلق بالمهام المنوطة بك.
و بسبب كثرة الحديث عن النظريات و التجارب العلمية فقد أبى ذلك اليوم الأول إلا أن ينتهي بمفاجأة حملها اسم الفندق الذي سنبلغه للمبيت فيه تلك الليلة ألا و هو H2O hotel.
اليوم الثاني
إنها الساعة الرابعة عصراً في الحافلة المتجهة إلى (اوسلوب) جنوب جزيرة سيبو الاستوائية و في المقعد المجاور لنافذة الحافلة تتراءى المزارع المحاذية للطريق الساحلي، و صاحبي في السفر يغالب النوم متحديا الازعاج المتواصل المنبعث من صوت تنبيه الحافلة التي يبدو أن سائقها حائز عل شهادات عالمية في تجاوز السيارات، الطريق المتعرج ذو المسار الأحادي يخترق المزارع الاستوائية حاملاً على ظهره الحافلات و السيارات و الشاحنات و الدراجات و التوك توك.. صورة مثالية لأغلب شوارع جنوب آسيا، و لكن لحظة رجاء، كيف و متى وصلنا إلى هنا؟
بفضل تطور التقنية وصلت سيارة الأجرة المشتركة صباحا إلى فندق H2O باستخدام تطبيق Grab، و اخيرا أتيح لنا رؤية العاصمة مانيلا في وضح النهار بينما كنا متجهين إلى مبنى الرحلات الداخلية بمطار نينيو اكوينو، و بينما كنت أنظر إلى موقعنا في الخريطة تذكرت حديث صديقي في الطائرة بالأمس عن طريقة تحديد الموقع بال GPS حيث يرسل قمران صناعيان إحداثياتهما إلى المستخدم فيقوم جهازه باستخدام قوانين حساب المثلثات لتحديد موقعه بالنسبة إليهما ثم حساب احداثيات موقع المستخدم، و في الحقيقة يتلقى الجهاز إشارة من قمر ثالث لأجل تعزيز دقة الحساب بحيث أن الدقة قد تبلغ خمسة امتار، في صالة الانتظار استغليت الوقت في البحث عن أحسن الطرق للوصول إلى جنوب سيبو بعد الوصول إليها و هو ما كان بعد ذلك، سيبو هي أحد الجزر المشهورة في جنوب آسيا و يوجد فيها منطقة باسم لابو لابو المناضل الشهير ضد غزو ماجلان و الغزاة الإسبان، جنوب سيبو هو أجمل مناطق الجزيرة و توجد فيها شواطئ و شلالات و بحيرات و جزر صغيرة تتميز بجمالها المتفرد، للوصول إلى اوسلوب عاصمة الجنوب تعين علينا اخذ حافلة mybus من المطار إلى منطقة SM mall قبل ركوبنا للحافلة اقترب منا رجل فلبيني عارضا المساعدة بعد أن سمعنا نذكر جنوب الجزيرة لموظف التذاكر، جلسنا بجانبه في مقاعد الحافلة بينما أخذ يشرح لنا طريقة الوصول إلى الجنوب، علمنا أنه يشتغل في سفينة لشحن البضائع حيث يغيب أشهرا طويلة قبل أن يعود في إجازات متقطعة، رافقنا بعد توقف الحافلة إلى محطة الحافلات المحلية التي تسمى جيبني و من هنالك دلنا على الجيبني الذي سيوصلنا إلى محطة الحافلات الكبيرة للذهاب إلى اوسلوب، عند بلوغنا لمحطة التوقف دخلنا إليزابيث مول بقصد عبوره إلى الجهة الأخرى حيث توجد محطة الحافلات و في أثناء عبورنا أمام واجهات المحلات الحديثة التي تعكس نمط حياة مختلفا عما أوحت به سيارة النقل (نكال) التي نزلنا منها قبل قليل، استوقفنا رجل ينادي أمام أحد المطاعم قائلاً (مطعم حلال) كان نداء المعدة أعلى من أن نتجاهل الرجل و بعد هنيهة كنا جالسين في المطعم نتناول الشاورما وسط حفاوة كبيرة من مالك المطعم عراقي الجنسية و شريكته المسلمة، استغرقنا في الحديث مع الرجل العراقي الذي يعيش في استراليا من 20 سنة و قبلها أمضى 5 سنوات في ماليزيا، أخبرنا بتعامله مع المرأة و زوجها المسلم كذلك الذين يمتلكان محزرة لبيع اللحوم، تحدثنا عن الأوضاع في العراق الجريح و غلاء المعيشة في استراليا و فرص الاستثمار في الفلبين، بعد إنتهائنا من الغداء و بعد قليل من التسوق كنا على متن الحافلة المتجهة إلى سيبو في رحلة مدتها أكثر من 4 ساعات في البيئة الاستوائية الجميلة و مناظر البحر على طول الخط و محاولات النوم رغم الصوت المتواصل لنفير الحافلة و الذي أدركنا أنه لا غنى عنه لمن أراد القيادة في شوارع الفلبين حتى ظننا أنه اكثر أهمية من الوقود، اقتنيت ساعة مستعملة من ماركة G Shock عرضها علي بائع متجول قبل تحرك الحافلة، أخبرني صديقي الباحث أنها إن لم تكن أصلية فهي تقليد قريب جداً من الأصلي، كذلك حكى لي عن الحرف G في اسم الماركة و الذي يرمز علميا إلى جاذبية الارض علمت فيما بعد أن هذا النوع من الساعات المقلدة تباع بكثرة في البلاد و بأسعار زهيدة جدا، مع كثرة توقف الحافلة لتنزيل و حمل الركاب على طول الخط قمت بحجز فندق متواضع في أوسلوب بالقرب من المكان المشهور للسباحة مع حيتان القرش، كما أنه قريب كذلك من شلال Tumlaoag و جاء محصل التذاكر الذي يذرع الحافلة جيئة و ذهابا ليأخذ منا قيمة ركوب الحافلة، مرت الساعات الأربع بطيئة بين نوم غير مكتمل و تأمل في جمال الطبيعة من حولنا و أحاديث مختلفة عن الخطة الحكومية (رؤية عمان 2040) و زيارة مهاتير محمد لعمان و متوسط ذكاء اللوبي الآسيوي الحائز على التوظيف في عمان، أبدى صديقي الباحث عن الحقيقة رأيا يقول بأن الخطة التطويرية المسماة عمان 2040 تعول كثيرا في نجاحها على الشعب و الشباب العماني، حين وصلنا أخيراً إلى فندق Casa Bonita كانت الشمس قد أسلمت الروح و تركت الظلام يجثم على القرية الضميئة بأنوار الشارع الذي يخترقها، اسم الفندق بالاسبانية يعني (ببت الجميلة) كما اخبرنا لاحقا، كما هو ملاحظ فإن الأسماء الإسبانية منتشرة بكثرة هنا بدأ من أسماء الناس و مرورا بأسماء الاماكن و ذلك بسبب الاحتلال الإسباني الذي دام اكثر من ثلاثة قرون.
حين استلمنا غرفتينا كان الانهاك قد بلغ منا كل مبلغ، فسارعنا بالتسجيل في عرض السباحة مع حيتان القرش الذي يقام كل صباح ثم صلينا و أكلنا ما تيسر لنا من مشتريات قبل أن نغادر لزيارة عالم الأحلام.
اليوم الثالث
قروش الحوت لا تبقى طويلا قرب الساحل بعد طلوع الشمس لذلك ففي تمام الساعة السابعة صباحا كنا نقفز من القوارب المدعمة بسيقان البامبو لنسبح مع هذه الأسماك الأليفة، لقد انتبابنا شعور جميل و نحن نراها قريبا منا بمسافة متر تحتنا أو بجانبنا تضرب بزعانفها الماء الكريستالي برفق و تفتح أفواهها لتسحب الماء المالح المليء بصغار الأسماك، رؤوسها المفلطحة بدت في غاية الروعة و الجاذبية أما خياشيمها الهائلة التي تشق جذعها بتناظر أنيق فكانت أمرا أشبه بالخيال.
حين عدنا إلى فندقنا القريب بسيارة نقل البضائع الصغيرة (نكال) طلبنا من موظفة الاستقبال أن ترشدنا إلى الميناء الذي سيأخذنا إلى جزيرة سوميلون الصغيرة، وصلنا إلى الميناء بعد 5 دقائق من المشي ثم امتيطنا القارب الذي أخذنا في رحلة استغرقت 10 دقائق إلى الجزيرة الاستجمامية الصغيرة، المياه هنا أيضا ذات لون شفاف كالكريستال، وقد قمت مع صاحبي باستكشافها مبتعدين عن فوج السياح و متوغلين إلى أعالي الهضبة الصخرية ذات الأشجار و الممرات المحيطة بمنتجع راق، وصلنا بمفردنا إلى منارة إرشاد السفن و التي بناها المحتل الإسباني منذ قرون و قد قام صديقي (الباحث عن الحقيقة) باعتلائها ليطل على منظر غابات الجزيرة و الشاطئ البعيد الذين انطلقنا منه و لم يمنعني من مرافقته إلا الآم كتفي من عملية ترميم المفصل التي أجريتها مؤخرًا ، و لأنني من محبي الرمزية في الأدب فلا بد لي أن أذكر هنا قصيدة أحمد مطر التي لم يمل الباحث عن الحقيقه يوما من ترديدها و التي مطلعها (احضر سلة.. ضع فيها 4 تسعات ضع نملة) و شرح لي المعنى الرمزي في كل مفردة منها، في تلك الغابة بوسط الجزيرك كانت لي أحاديث أخرى مع الباحث عن الحقيقة في الأدب كحديثنا عن قصيدة الاصمعي (صوت صفير البلبل) حيث قال صاحبي "يبدو لي أن الشاعر قالها و هو سكران" و كذلك حديثنا عن مناسبة قول الحجاج (كن ابن من شئت و اكتسب أدبا.. يغنيك محموده عن النسب) و لم ينس صديقي الباحث أن يعيد ذكر إعجابه بالشاعر الفيلسوف أبي مسلم البهلاني.
بعد أن سبحنا على شاطئ الجزيرة الهادي، قفلنا راجعين إلى الفندق ثم لم نلبث حتى غادرناه مستأجرين العربة ثلاثية العجلات Tricycycle و التي تسمى (توك توك - اوتوريكشا) في بلدان أخرى، اتجهنا إلى السوق المتواضع في أوسلوب oslob و وصلناه بعد 10 دقائق فتسوقنا قليلا من السوبرماركت الصغير ثم تناولنا الغداء البيتزاوي من أحد المطاعم البسيطة، أكثرت النادلة من الحديث معنا و عن بلادنا و عندما هممنا بالمغادرة دخلت فتاة لم تبلغ الحلم تحمل أكياسا مليئة بالاسماك لتعرض على العاملتين في المطعم شراءها و لكنها لم توفق في مسعاها، بعدها مشينا باتجاه الكنيسة الكبيرة التي بناها الأسبان، مشينا على المنتزه المجاور للكنيسة و جلسنا على السور مواجهين المحيط و ماء البحر يضرب جدار السور أسفل أقدامنا، لفت صاحبي نظري إلى نظافة و رقي المنطقة المحيطة بالكنيسة و كأنها نقلت نقلا من أوروبا، بينما ترك ما عداها لطابعه البسيط، "تخيل السكان المحليين قبل 5 قرون و هم يعيشون على سجيتهم بدون إدارات معقدة و لا صناعات متقدمة" هكذا بدا الباحث روايته لقصة الاحتلال الإسباني لجزر الفلبين، "ثم أتى ماجلان و زمرته بسفنهم و أسلحتهم ليفرضوا النظام بالقوة و يستخدموا السكان في إنتاج ما يمكن من السلع لتستفيد منها إسبانيا و منعوا كل ما من شأنه أن يخل بنظام المحتل الغاصب و جاءوا بقوانين تضمن أن تأخذ العدالة - المزعومة- مجراها ضد كل من تسول له نفسه التمرد أو رفض قانون المحتل المتحضر" في تلك الفترة طبعا نشط البطل القومي لابو لابو و أقنع عددا لا بأس به من السكان بأهمية الوقوف في وجه الاحتلال ثم دفع حياته ثمنا لذلك.
في طريق عودتنا كانت الشمس تشير إلى منتصف الظهيرة و وجدنا مجموعة من طلاب المدارس متجمعين بالقرب من حديقة الكنيسة و لما لمحونا من بعيد و شاهدوا فرق الطول بيني و بين صاحبي هتفوا ينادونه و يسألونه عما إذا كان يلعب كرة السلة، فرد عليهم مبتسما بالنفي و قال بأنه يلعب كرة الطائرة، قدموا لنا دعوة كريمة للعب الطائرة و بعد تردد اعتذرنا منهم بلطف و أكملنا طريقنا في المنطقة التجارية الصغيرة جدا جدا لدجة أننا صادفنا صاحبة المطعم مجددا فأخبرناها برغبتنا في العودة، ارشدتنا مشكورة إلى عربة الجيبني لنركبها منتظرين بضع دقائق حتي تمتلئ، في أثناء انتظارنا ركب معنا طالب مدرسة شاب و جرى بيننا حديث مطول لم ينقطع حتى لحظة نزولنا من الجيبني عند الفندق، عرفنا من الفتى بأن ساعات الدراسة تمتد من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة عصراً مع فسحة لمدة ساعة تبدأ في الثانية عشر، أما هو فقد حصل على عذر للمغادرة مبكرا لاسباب منزلية، كانت لغته الإنجليزية تبلغ حد الطلاقة في التحدث و علمنا منه بأن اللغة المحلية في سيبو تختلف عن لغة الفلبين الرسمية (التاغلوغ) و ذلك متوقع لأن البلاد تحتوي على كثير من العرقيات المختلفة.
بعد أخذ فترة من القيلولة في الفندق لتخفيف الصداع الذي شعرت به منذ استيقاظي صباحا، ركبنا الدراجتين المستأجرتين خلف سائقيهما و اتجهنا نحو شلال التومولوج، ركوب الدراجة صعودا في التلال و بين الأشجار كانت تجربة جميلة بحق، و عند النزول يمكنك رؤية البحر و الجزر القريبة من خلال الفرج بين أغصان الشجر، تأخرنا قليلا بسبب فراغ الهواء من إطار الدراجة التى كانت تقل صاحبي، ذهب سائقها لتبديله و لكنه رجع بدراجة جديدة، بينما كنا ننتطر عودته علمنا من الآخر بأنهم يستاجرون الدراجات بما يقرب من 35 دولار شهريا و ليست ملكا لهم كما كنا نظن، حين وصلنا إلى الأعلى توجب علينا أن نترجل من الدراجتين و ننزل مشيا على طريق شديد الانحدار لنصل إلى أسفل الشلال الرهيب الَتسلقط من علو يزيد على الثلاثين متراً و البحيرة التي يصب فيها و التي يصل عمقها إلى منتصف القامة، و بعد أخذ ذ الصور و الإصابة بالبلل أسفل الشلال عدنا لصعود الطريق المنحدر لما يقرب من ربع الساعة حتى تقطعت أنفاسنا.
إن النسبية و اختلاف الثقافات تتجلى بأوضح صورها في أثناء السفر، فعندنا مثلا من غير الوارد أن نفكر في ان يكون الأرز مطهوا بالسكر كما في مثلثات الأرز الفلبينية المعبئة في سعف و أوراق الشجر، هذا ما فكرت فيه و نحن نتناول وجبة العشاء في أحد المطاعم المعدودة بأوسلوب حيث طلبنا السمك و الحبار المشوي، بعدها مضينا لشراء بعض الاغذية من السوبرماركت الصغير و بينما كنت أهم بشراء الفواكه من العربة المتجولة فاجأني وصول الحافلة فركبناها ثم قفلنا راجعين.
اليوم الرابع
حسب الاتفاق كنا على أتم الاستعداد لتسجيل الخروج في تماَم الساعة السادسة و النصف صباحا، في اليومين، و قد كانت بلغ من حرارة الوداع و شدة اندماجنا مع طاقم الفندق أنهم قد التقطوا معنا صور السيلفي ثم ساعدوننا بإيقاف إحدى الحافلات الصباحية الكبيرة المتجهة نحو منطقة باجاوا - بعد توقف في محطة قريبة لركوب حافلة ثانية- و فعلاً كنا بعد 3 ساعات نقف عند المحطة و لحسن الحظ كان بمحاذاة نقطة التوقف مكتب يقوم بتنظيم رحلات سياحية نحو الوجهة التي جئنا من أجلها ألا و هي شلالات كاواسان، في الفندق لم نجد سوى عرض وخيد يشمل نشاطاً جبليا و سباحة و قفز في الشلالات لمدة تزيد على ث ساعات بقيمة 1500 بيسو للشخص (10 ر. ع) و لذلك كان القرار أن نمشي إلى الشلال الرئيسي فقط و الذي يتطلب دفع 50 بيسو فقط لدخوله، و لكن مع المكتب الذي تصادف افتتاحه قريبا - كما قال لنا أصحابه - وحدنا عرضاً افضل بقيمة 900 بيسو يشمل التوصيل بالدراجة و القيام بنشاط جبلي و سباحة في 3 برك و 3 شلالات لمدة ساعة، تركنا حقيبتي الظهر الكبيرتين التين تحويان أمتعتنا عند أصحاب المكتب - و هو في الأصل بيت تسكنه العائلة المالكة للمكتب- و لبس كل واحد منا سترة النجاة و الخوذة ثم اتجهنا من فورنا بالدراجة إلى منطقة بداية المغامرة و التي تبعد ما يقرب من ربع الساعة، و لا داعي للقول بأن المناظر في الطريق كانت ساحرة جدا، أما المغامرة نفسها فلا أظنني سأجد الكلمات المناسبة لوصفها بما فيها من مناظر لغابات تخلب الألباب و مشي بمحاذاة النهر المهيب و سباحة و قفز من ارتفاعات تثير التحدي إضافة إلى التأرجح الطرزاني فوق أحد البحيرات ثم الغوص داخلها، و تنتهي المغامرة عند الشلال الرئيسي و اابحيرة الكبيرة التي تزدحم بالسياح، مهما حاولت وصف هذه المغامرة فلن أتمكن من إيفائها حقها و لو لم يكن في رحلتنا شيء غيرها لكفانا.
عودة إلى المكتب السياحي حيث سمحوا لنا بالاستحمام عندهم ثم أوقفوا لنا الحافلة العائدة إلى سيبو، على الخريطة تبدي لي أكثر التأثير الإسباني حيث توجد منطقة على الساحل الغربي باسم طليطة Toledo، لا يبدو لي أن الاستعمار قد ترك خيراً كثيراً لأبناء البلد، طابع الحياة البسيطة ما زال هو الغالب، يتضح ذلك من أعداد الباعة المتجولين ااذين يقتحمون الحافلة كلما توقفت أو يخيطون بنوافذها لعرض المأكولات الشعبية و الكعك المحلي و العصائر و علب الماء، الشارع يبدو في حالة جيدة مقارنة بدول آسيوية أخرى و لكنه لا يختلف عنها في التواءاته و تعرجاته التي ترهق الظهر الذي يتولى مسؤولية حفظ توازن الجذع، زاد من ذلك جلوسنا بمؤخرة الحافلة فقمت بتغيير مكاني متقدماً إلى المقعد قبل الأخير و لكن تركت متاعي و حقيقتي بالمقعد الخلفي، كانت المقاعد شبه فارغة و لكنها ما لبثت أن امتلئت خاصة كلما اقتربنا من المدينة، بعد وقت طال لأكثر من 3 ساعات وصلنا إلى المحطة الأخيرة للحافلة حيث ترجلنا بعد أن جاهدت لانتزاع حقيقبتي من أسفل المقعد الخلفي، و أدى بذلي لذلك الجهد إلى نسياني لسماعات الرأس الكبيرة بالكرسي الذي كنت أجلس عليه، و لم أنتبه الا بعد ربع ساعة حينما كنا نتسوق من (إليزابيث مول) فأسرعت الخطى عائداً بعد أن تركت متاعي مع صاحبي في المطعم الإسلامي الذي زرناه من قبل، في مواقف الحافلات - المتشابهة و صعبة التمييز- تنقلت من حافلة إلى أخرى متفاديا أن يراني السائقون المجتمعون عند إحداها، و لما يئست اتجهت إليهم طلباً للمساعدة فأشاروا إلي بالصعود إلى المكتب بالأعلى في بناية المحطة ذات الطابقين، أسرعت إلى المكتب الذي اتضح أنه للودائع و الشحن و تحصيل التذاكر، و اضطررت إلى الانتظار في الجو الخانق حتى تعود الحافلة من مركز الصيانة، هممت بالمغادرة و نسيان الأمر و لكن بعد ثلث الساعة كنت أغادر المحطة بعد أن أرحت ضميري بتأكيد عدم العثور على مفقودتي.
حين رجعت إلى صاحبي بالمطعم أخبرني أنه أمضى الوقت في الحديث مع صاحبة المحل -كان العراقي قد غادر عائداً إلى أستراليا- و قد أخبرته عن قصة إسلامها، بعد عادت للجلوس معنا سمعتها تذكر بأنها كانت كاثوليكية متشددة و لكن زوجها الضابط بأحد الأجهزة الأمنية قرأ كثيراً عن الإسلام بحكم عمله ثم اعتنقه و قد حدثت بينهما خلافات كثيرة في البداية بسبب ذلك كادت تصل حد الانفصال، بعد ذلك امتد الحديث بنا لما يقرب من الساعة حيث قام الباحث عن الحقيقة بتوضيح وجهة نظره لها في كثير من الأمور مثل تعدد تفسيرات القرآن الكثيرة و ضرورة تجديد التشريع لينسجم مع الحياة الحديثة كما شرح لها الأصل السياسي للخلاف المذهبي بين المسلمين منذ عهد الصحابة و ضرورة أن يركز المسلمون على نقاط الاتفاق بينهم - كما يفعل المتعلمون و المثقفون- و ترك نقاط الاختلاف و التفرقة التي ليست من جوهر الدين، و في توضيح نسبية الحقيقة ضرب لها مثال العميان الثلاثة الذين طلب منهم وصف الفيل حسب ما لمسوه بأيديهم.
وافقت السيدة الفاضلة مشكورة على ترك حقائبنا في المطعم ريثما نذهب إلى مسجد (ستي مريم) الذي دلتنا عليه، مشينا لما يقرب من ربع الساعة ثم وصلنا إلى المسجد الذي سبق و أن سمعنا صوت الأذان ينبعث منه حين وقفت بنا الحافلة في المحطة، يعتبر المسلمون من الاقليات بالفلبين و في البيوت المحيطة بالمسجد رأينا صور السيد المسيح و الأيقونات المسيحية معلقة لتبعث رسالة صريحة على ما يبدو، من بعيد استقبلنا رجل ذو لحية بيضاء مهيبة و دلنا على مكان الوضوء.
في طريق عودتنا كنا نفكر فيما إذا كان يتوجب علينا التبكير بالذهاب إلى المطار إذ يجب أن نكون هنالك بعد ساعتين، و تبعاً لحسابات العم جوجل فسيلزم ما يقرب من الساعة بالسيارة لتخطي زحام الشوراع في ذلك المساء، و لكن السيدة المسلمة أوضحت لنا خطأ حسابات جوجل و أننا لن نتمكن من الوصول في الوقت المناسب بسبب الاختناقات المرورية التي تعاني منها المدينة ليلاً، و بدلاً عن ذلك نصحتنا بركوب دراجات الأجرة و التي ستتمكن من المناورة و قطع الزحام بسلاسة، و قد سعادتنا بالفعل حين طلبت من أحد العاملين معها أن يحجز لنا درجتين و أن يساوم في السعر لأجلنا، ودعناها بامتنان فائق و ركبنا خلف سائقي الدراجتين في تجربة ليلة لا توصف في شوارع المدينة و فعلاً لاحظنا حجم الازدحام المروري قبل أن نصل إلى المطار في الوقت المناسب و قد كلفنا ذلك مبلغ 300 بيسو للشخص (ريالين تقريبا).
في صالة انتظار البوابة المؤدية إلى طائرتنا جلست مقابلنا فتاتين و لكن لاحظنا وجود دلائل عديدة تشير إلى أن الأصل الجنسي لكل منهما مخالف للظاهر، و هذه إحدى الظواهر المنتشرة هنا و التي صعب علينا تفسير السبب وراء شيوعها و انتشارها بشكل كبير في الفلبين و مملكة تايلند.
اليوم الخامس
لم يحمل هذا اليوم أحداثا كثيرة، كنا قد وصلنا البارحة إلى مانيلا و استئجرنا نزلا قريباً من المطار، في الصباح طلبنا وجبة الإفطار و التي تكونت من pancake منزلي الصنع لم يسبق لنا أن تذوقنا مثله، ببرنامج Grab أخذنا سيارة إلى المطار، و ما هي إلا سويعات حتى كنا في الجو و صاحبي يتحدث عن تقارب التكوينات الجسدية لشعوب العالم بمرور الوقت بسبب الانفتاح الاقتصادي و اشتراك جميع الشعوب في أنواع الغذاء يوماً بعد يوم، يستثنى من هذه القاعدة كوريا الشمالية التي تعيش في عزلة عن العالم و الاي وجد الخبراء أن بنياتهم الجيدية لا تزال محافظة على خصوصياتها.
في داخل الطائرة التابعة ل Cebu Pacific طرحت مسابقة (سؤال و جواب) في مجال الحفاظ عن البيئة و أعطيت الجوائز للركاب الثلاثة الفائزين، استمرت الرحلة الجوية ما يقرب من الأربع ساعات و كان الليل قد حل حينما وصلنا العاصمة طوكيو، انتهينا من إجراءات ختم الجوازات ثم سألنا عن أماكن بيع شرائح الهاتف لنقوم بشراء شريحتين بقيمة 2500 ين للشريحة (9 ريالات) تحتوي على بيانات إنترنت 1 جيجابايت و بدون مكالمات، اتجهنا بعدها لمكاتب شركة Japan Real أو JR اختصارا و أريناهم إيصالات الشراء للبطاقة المفتوحة التي تمكن صاحبها من استخدام قطار الطلقة لعدد غير محدود من المرات و التي اشتريناها عبر النت و تم توصيلها إلى مسقط عبر FEDX، تم إعطاؤنا وثيقة المرور JR Pass الصالحة لمدة 7 أيام ثم باشرنا استخدامها بحجز القطار السريع من مطار ناريتا الدولي - الواقع بعيداً جداً عن طوكيو - و الذي يتجه إلى شنجوكو shinjuku قلب العاصمة النابض، و منها توجب علينا معرفة الاتجاهات الصحيحة للوصول إلى فندق شنجوكو للكبسولات Capsule Hotel Transit Shinjuku، بينما كنا نحاول معرفة الطريق الصحيح عند محطة شنجوكو الضخمة اقترب منا مجموعة من الشباب ببدلات سوداء - الزي الرسمي للطالب- طالبين منا التقاط صورة جماعية لهم، كان ذلك مساء يوم الجمعة الذي سيتلوه يوما الإجازة الأسبوعية و لذلك فقد اكتظت للمدينة بالسياح القادمين من خارج طوكيو إضافة إلى الطلاب و الموظفين الذين يخرجون للسهر و التنزه و ارتياد الحانات، بمساعدة خرائط جوجل مشينا لما يزيد على 20 دقيقة وسط شينجوكو - علمنا لاحقا أنها مأوى العصابات و المافيا- في جو بارد جدا ننظر إلى واجهات المحلات و مطاعم السوشي و الرامن، بلغنا منطقة تمتلئ بالافارقة الذين حاولوا التقرب منا و نداءنا و لكنا اعتذرنا لهم مبتسمين و نحن نسرع بحقائبنا الثقيلة على ظهورنا قبل أن نبلغ فندق الكبسولات، إن نظام تأجير الكبسولات هو أحد ما يميز اليابان، فنظرا لأسعار الفنادق العالية جداً يفضل كثير من السياح السكن في هذا النوع من الفنادق الإقتصادية المكونة من غرف مشتركة تحتوي كل منها على غرف مصغرة جداً بعضها فوق بعض على شكل خلايا نحل و كل غرفة لا تصلح إلا لتمدد الجسم البشري فقط مع منفذ للكهرباء و رف صغير، أما ارتفاعها فهو يصلح للجلوس فقط، بعد استلامنا لمفاتيح الخزانات التي يفترض أن نضع فيها أمتعتنا و لفوط الاستحمام و ملابس النزلاء ذات اللون الموحد صعدنا نحو غرفة الكبسولات التي تراصت فيها ما يقرب من خمسين كبسولة، و لأن حجم الخزائن لم يكن يتسع لوضع حقائبنا فقذ قمنا بوضعها بداخل الكبسولة حيث سننام، في تلك اللحظة اكتشفت فقدان بطاقة ال JRP التي فعت لها مبلغ 100 ريال قبل السفر فانطلقت من فوري عائداً لأقتفي آثار خطواتي و أنا متيقن من أنني لن أجدها، و عندما بلغت منطقة الأفارقة لمحتها من بعيد على الطريق فأحسست بشعور لا يمكن وصفه و عندما التقطتها اقترب مني أحد الأفارقة ليخبرني بأنه رآها منذ فترة، في طريق العودة تم إيقافي مرتين و عرضوا علي - بالتلميح تارة و بالتصريح تارة أخرى- أن أقضي بعض الوقت الممتع مع الجنس الناعم، اعتذرت لهم شاكراً و مضيت لأخبر صديقي الباحث عن الحقيقة عن ذلك.
اليوم السادس
إنه بداية النهار الأول إذن في أرض اليابان، الارض التي يكاد لا يصدق الناس أنها كانت قبل 70 عاماً أطلالا و خرابا و هي الآن قوة اقتصادية عالمية، الأرض التي لم تستسلم ثقافياً للمنتصر بل غزت ثقافتها الكرة الأرضية بالأنمي و ألعاب الفيديو حتى أنني لا ابالغ إذا قلت أنك لن تجد بشريا واحداً على قيد الحياة لم يشاهد مسلسلات الكرتون اليابانية، ابتدأنا يومنا بالتوجه إلى محطة المترو و سألنا عن الخط المؤدي إلى برج طوكيو الشهير، عند وصولنا إلى المحطة المقصودة توجب علينا المشي لما يقرب من ال 20 دقيقة مررنا خلالها بأحد المعابد البوذية و مقبرة تذكارية لأحد عوائل الساموراي الحاكمة قبل 400 سنة، حينما اقتربنا من البرج لفت انتباهنا فعالية كبيرة للأطفال بإحدى المدارس حيث تحلق الآباء و الأمهات مستديرين لمشاهدة المسابقات الرياضية لأطفالهم، مكثنا نشاهد و نصور الألعاب و نشجع مع المشجعين قبل أن نكمل طريقنا باتجاه برج الاتصالات الشهير و الذي استدرنا حوله لندخل الطابق الأول منه، و قررنا عدم الصعود إلى أعلى البرج بما أننا سنذهب بعدها لزيارة البرج الأعلى في طوكيو (شجرة السماء)، قبل وصولنا إلى المخرج استوقفنا ثلاثة من الشباب الياباني يعرضون ثقافة النينجا و يلبسون زيهم الأسود المميز، عرض علينا أحدهم - و هو نصف ياباني كما أخبرنا لذلك يجيد الإنجليزية- أن نشترك في لعبة لرمي نصل النينجا لإصابة الهدف مقابل هدية رمزية، وافق صديقي على ذلك و قاموا بتعليمه طريقة مسك النصل و التصويب، بعد ذلك طلبنا منهم التصوير معنا و تبادلنا الحديث معهم عبر المترجم نصف الياباني حول سيوف الكاتانا اليابانية و نظيرتها العربية، بعد ذلك غادرنا متجهين إلى محطة المترو و منها إلى برج (شجرة السماء)، في الطريق توقفنا بأحد المطاعم العربية و تتاولنا وجبة (كسكسي دجاج) المغربية من البائعة اليابانية المتزوجة من رجل تونسي و هو ما فسر لنا تمكنها من فهم الإنجليزية على غير عادة اليابانيين، قبل خروجنا تبرعنا بعملة عمانية لإضافتها إلى حائط المطعم المعلق عليه عملات من أنحاء العالم،
في هذه البلاد كما في التي قبلها - الفلبين- لم نصادف شحاتا واحداً على عكس بلدان النور و الحضارة في الغرب، و في محطات المترو يمنع التحدث في الهاتف و يعتبر أمرا منافيا للذوق العام، من محطة الوصول لم تكن مسافة المشي - أو قل الصعود-طويلة، و لم يكن طابور التذاكر طويلاً، كلفتنا تذكرة الدخول2000 ين للشخص (7 ريالات) حتى المستوى الأول ثم ما يقرب من 1000 ين للمستوى الأخير، كان منظر المدينة من ارتفاع يربو على 450 متر بديعا و مهيبا، بعد أكثر من ساعة نزلنا من البرج و قررنا البحث عن مسجد، بعد تبديل خطين من خطوط المترو ثم المشي لما يقرب من نصف الساعة في إحدى الضواحي، وصلنا إلى مسجد معظم مرتاديه من الباكستانيين صلينا الظهر و العصر ثم انتظرنا قليلاً حتى رفع أذان المغرب، بعد الصلاة توجهنا إلى منطقة شيبويا المعروفة بشارعها الكبير ذي التقاطع و شاشات الدعاية الضخمة و الذي يعبره المشاة بالمئات عند إضاءة الإشارة، و من هناك بحثنا عن مطعم فوجدنا مطعم Mamo للشاورما التركية، و لأنه اليوم الاول فقد بلغ من الإنهاك مبلغاً كبيراً فعدنا من فورنا منهين بذلك يومنا الياباني الأول.
اليوم السابع
لم أعلم مدى الجهد الذي بذلناه بالأمس إلا حين صحوت على ضربة من الباحث عن الحقيقة على قدمي ليبلغني بأنها الساعة التاسعة صباحا و أن علينا أن نكون بالخارج بعد نصف ساعة لأجل ملاقاة صديقه الياباني في تمام الساعة العاشرة كما تم الاتفاق بينهما في الليلة السابقة عبر الفيسبوك، كانا قد التقيا قبل 5 سنوات في الهند ضمن برنامج تدريبي للطلاب و لمنتسبي الجامعات من كل أنحاء العالم، في محطة المترو أخذنا بطاقة ب 1500 ين (ما يقرب من 5 ريالات) صالحة للاستخدام ليوم كامل في جميع خطوط المترو ثم في الموعد المحدد كنا قد وصلنا إلى نقطة اللقاء بمحطة kagurazaka حين اكتشفنا وجود محطتين متقاربتين بهذا الاسم و أننا في المحطة الخطأ و هو ما تطلب منا أن نمشي لملاقاته في منتصف المسافة بين المحطتين، حين رأينا (شين سوكي) و هو اسم الصديق تبادلا الأحضان و السؤال عن أحوال الحياة ثم مضينا نحو المعرض التنكري بمنطقة كاجورازاكا حيث الاستعدادات للفعالية التي ستقام بعد 4 ساعات و فيها يتنكر الناس بأقنعة القطط أو يرسمونها على وجوههم، اتجهنا بعدها إلى معبد أكاجي و الذي يعني قصر الرصاص، على مدخل المعبد أوضح لنا شينسوكي كيفية تطهير الفم و اليدين من حوض الماء المرتفع فوق قاعدة أسمنتية، و ذلك باستخدام المغارف الخشبية الموضوعة فوق العوارض المعدنية بأعلى الماء، بعد ذلك أدينا الطقس الروحي الذي يسبق الدعاء حيث على المريد أن يحني رأسه ثم يضرب راحني يديه ببعضهما أسفل ذقنه ثم يتلو أمنيته، عند معرض المشغولات اليدوية بجانب واجهة المعبد رأينا مئات من أوراق الأمنيات مطوية و مربوطة بإطار خشبي ذي أعمدة، في الطريق بعد خروجنا من المعبد سألنا صديقنا الياباني عن سبب عدم تحدث الشعب للغة الانجليزية ما عدا فئة نادرة فأجابنا بأنهم لا يتعلمونها سوى في المرحلة الثانوية قراءة و كتابة و أن من النادر أن يتاح لهم ممارسة التحدث بها خاصة و أن الدراسة الجامعية تكون باللغة اليابانية.
من أقرب محطة للمترو اتجهنا نحو المول المشهور باسم أكي هبارا حيث تعرض أحدث المنتجات التقنية في الحاسوب و الإلكترونيات و التصوير و الآلات الكهربائية كما قمنا بالمشي في الشوارع المحيطة حيث تكثر محلاث بيع هدايا و اكسسوارات الأنمي، هذه هي الوجهة التي يحرص كل أوتاكو على زيارتها في اليابان (الأوتاكو اسم يطلق على مدمن مسلسلات الأنمي)، من أحد المكتبات قمت بشراء كتابين من القصص المصورة - المانجا- لناروتو و ون بيس.
بالقرب من محطة مترو أكي هبارا أخذنا صديقنا إلى مطعم للسوشي الوجبة الاشهر في اليابان حيث يقدم الأرز مع السمك غير المطهو بالنار أو الحرارة، خمنت أنه يتم إعداده بإضافة مواد او بهارات معينة و لكن الكسل بلغ بي أنني لم أحاول البحث عن صحة هذه الفرضية، على كل فقد أمسك صديقي نفسه عن التقيؤ بينما تمكنت أنا من الاستمتاع ببعض الأطباق التي تدور في الطاولة الوحيدة وسط المطعم و الزبائن يحيطون بها و يلتقطون ما يريدون من أطباق.
نحن في طريقنا الآن تحت الأرض نحو القصر الامبراطوري، و في المسافة بين محطة الوصول و القصر عرفنا من شينسوكي بأنه من السهل أن يتزوج ذكور العائلة الإمبراطورية من غير ذوات الدم الملكي بينما الصعوبات تواجه الفتيات حين الرغبة بالزواج من الخارج، من سوء طالعنا وجدنا بأن القصر مغلق للصيانة على ما يبدو فتجولنا في الساحات الخضراء المحيطة به، سألت صاحبنا الياباني عن متوسط الأجر الشهري للمهندسين في اليابان فأجابنا بأنه يقارب الالفي دولار (750 ر. ع) تعجبنا لذلك مع ما نلاحظه من غلاء للمعيشة عندهم، في نقاش لاحق مع صديقي الباحث عن الحقيقة قال بأن حالنا كأفراد أحسن من حالهم و أن إدارتهم و حكومتهم من الكفاءة بحيث جعلت الشعب قادراً على الاستمرار في الحياة بمثل هذا الدخل و في مثل هذا المستوى من المعيشة الغالية.
بعدها قررنا الذهاب إلى منطقة أكاسكا المعروفة بسوقها التقليدي الذي ينتهي بمعبد كبير، في أثناء مشينا بمحطة المترو سألت شينسوكي عن عدد ساعات العمل لديهم فاخبرنا بأنهم يبدأون من الساعة التاسعة صباحا و حتى الخامسة مساء و أن طبيعة العمل و الثقافة اليابانية تقتضي ساعات دوام إضافية يوميا - ساعة أو اثنتان على الأقل - و قد يكون هذا هو سبب الإنتاجية العالية و النجاح الكبير للصناعة اليابانية رغم ما فيه من تعب و مشقة للعامل حتى أنه صرح بعدم ارتياحه لهذا النمط من العمل لولا ثقافة العمل السائدة، في أكاسكا مضينا وسط الزحام البالغ للسائحين بين أكشاك بيع الملابس و الهدايا و الأطعمة على الجانبين، ثم حين بلغنا نهاية السوق قرب المعبد الكبير و هممنا بالاستدارة للرجوع، تلقفنا 3 من الشباب الياباني في حالة سكر و زجاجات الخمر بأيديهم، دخلوا معنا في حديث مملوء بالضحك و هم يسألوننا من أين نحن و يبدون إعجابهم بعمان و يطلبون التقاط الصور معنا، كانوا يعرفون بضع مفردات من الإنجليزية و قد جعلهم الخمر مبسوطين لدرجة كبيرة، ودعونا بحرارة لا مثيل لها - أم ترانا نحن الذين ودعناهم؟ - ثم قفلنا راجعين.
باتجاه محطتنا الاخيرة و هي قبة طوكيو عرض صديقي على شينسوكي أن يعطيه بطاقة اليوم الواحد ليستخدمها في خطوط مترو JR بدل أن يصرف من بطاقته الخاصة و التي يقوم بتعبئتها كل فترة لأجل استخدام المترو، بينما يستخدم هو بطاقة ال JR المجانية لسبعة ايام في خطوط شركة JR، و قد قبل العرض شاكرا، إن من يرى مستوى المعيشة هنا لا يمكنه أن يلومه على ذلك، وصلنا إلى القبة الكبيرة و التي هي في الحقيقة ملعب لكرة القاعده (بيسبول) الرياضة الأولى في اليابان، و يتسع لآلاف المشاهدين كما يوجد بداخله الكثير من المطاعم و المحلات، حين وصلنا كانت الساعة الخامسة عصرا فوجدنا الملعب المقبب - أو قبة طوكيو- مغلقا و بالجوار رأينا الملاهي الضخمة و أصوات الصراخ تنبعث من داخلها لتنافس أصوات العجلات و هي تهوى بالعربات في المسار الحلزوني المرعب، كانت ظهورنا و أرجلنا تئن مطالبة ببعض الراحة بعد المسافات الطويلة التي قطعناها منذ الصباح و الطلوع المتكرر لسلالم محطات المترو، فجلسنا على المقاعد بالساحة الخارجية للقبة و تبادلنا أطرافا من الحديث ثم اتجهنا إلى المحطة القريبة من القبة فودعنا صديقنا الياباني و شكرناه عل حسن وفادته و مرافقته لنا و التي أفادتنا كثيرا حيث تمكنا من التواصل مع الاخرين بسهولة.
حين وصلنا إلى مسكن الكبسولات كانت بطوننا قد استلمت الراية من ظهورنا لتطالب بحقها، فتطوعت بالمشي - بعد استشارة العم جوجل- إلى مطعم هندي قريب، اجتزت الشوارع المزدحمة و الأزقة الخلفية التي يرى العم جوجل بأنها أقصر الطرق المؤدية إلى وجهتي، و حين وصلت الى المطعم المتواضع رأيت رجلاً و امرأة يابانيان ينتهيان من تناول الطعام و قبل قيامهما خاطبت المرأة النادل ذي اللحية القصيرة بعبارات الشكر العربية و الاوردية و قد استجاب لها باللغتين موضحا الفرق بينهما، سألته بالعربية إن كان باكستانيا فأجاب بأنه هندي و انفرجت أساريره حين علم أنني عماني و قال بأنه قد عاش 12 سنة في عمان (إبراء و قريات) ثم مضى يخبرني عن أسماء من يعرفهم هناك و قد قابلت ذلك بابتسامة عريضة قبل أن أتناول برياني الدجاج من عبدالملك - و هو اسمه- ثم أعود إلى فندق الكبسولات سالكا نفس الطريق من الشارع السريع المزدحم ثم الأزقة الخلفية للأحياء السكنية، لينتهي يومنا مرتاحي البال و البطن.
اليوم الثامن
تعجبنا من رؤية بعض الناس يسعون إلى العمل على ما يبدو بينما كنا نتجه نحو محطة المترو في الصاح الباكر، قد يكون نظام دوامهم مختلفاً عن السائد أو أنهم يعملون بنظام المناوبة أو ربما هي الساعات الإضافية التي تجعل الياباني يابانيا!!!
سابقا قبل يومين و باستخدام بطاقة JRP كنا قد حجزنا القطار المتجه إلى كيوتو لذلك فقد توجهنا إلى محطة مترو shin okubo و منها إلى محطة شيناجاوا حيث توجد محطة القطارات و أشهرها قطارات الطلقة shinkansen و سنمتطي ظهر أحدها بسرعة اكثر من 250 كم/س، بعد السؤال و إظهار بطاقات الحجز وصلنا إلى منصة الانطلاق و كان يتحتم علينا الانتظار 20 دقيقة، عند جميع منصات القطار و المترو في اليابان يوجد مسؤول لتنظيم الركاب و للاستعلامات كما يشتهر أن من مسوولياتهم كذلك كنز الركاب في اوقات الذروة، كذلك يشاع أن عليهم منع جميع من تسول له نفسه أن يرمي بجسده أمام القطار ر هي هواية محببة لدى الشعب الياباني، كنت قد ناقشت مع صديقي الباحث عن الحقيقة هذه الظاهرة التي يبالغ البعض في وصفها لدى اليابانيين، و قال بأن المستويات المرتفعة هنا مقارنك بأوروبا مرجعها إلى وجود العزاء و وعود التعويض الاخروي عند الأوروبيين لمن أراد الرجوع إلى الدين الموضوع بعيداً عن مجريات الحياة و لكن في اليابان - حيث يوضع الدين بعيداً عن الحياة كذلك- لا يوجد إيمان بحياك بعد الموت لمن أراد الرجوع إلى الدين، في حديثنا بالأمس مع صديقنا الياباني أخبرنا بأنه اعتاد تمضية الإجازات الاسبوعية في ألعاب الفيديو أو الخروج مع الأصحاب، رأى صاحبي بأن الشعب هنا مبرمج ليصبح آلات عمل و إنتاج و أنهم لا يملكون أي غاية من وراء الحياة، اختلفت معه في الرأي و لكن حافظت على طبيعتي بعدم الإكثار من الجدال، حين وصل القطار لم ننتبه إلى أن علينا أن ننتظر الدقائق العشرين و ركبناه و نحن نحسب أنه قطارنا، لم ننتبه إلى غلطتنا إلا بعد أن تحرك القطار و قد فات أوان التراجع، حين جاءت موظفة التذاكر توقفنا عن الضحك من حماقتنا و وضعنا أقنعة البراءة على وجهينا و نحن نريها التذكرتين، أوضحت لنا اللبس الذي وقعنا فيه و ارشدتنا بتهذيب إلى ضرورة المغادرة في المحطة، القادمة و هو ما فعلناه و قمنا بانتظار قطارنا الذي سيتوقف بعد دقائق بنفس تلك المحطة.
في الساعتين و النصف باتجاه كيوتو مررنا بالبساط الأخضر و الجسور و الأودية الضحلة، و قد استغللت الوقت لأدخل في نقاش مع الباحث عن الحقيقة حول المحتوى المرئي في الإنترنت مقارنة بالمحتوى المكتوب و أيهما يغني معرفيا أكثر عن الآخر، كان رأيه لصالح المرئيات بينما ملت أنا لصالح المكتوبات نتيجة ما ألحظه شحصيا من توفر الكثير من المعلومات و الأفكار المكتوبة مقارنة مع تلك المشاهدة، و كذلك تطرقنا إلى النقاش حول التمثيليات و مدى تمكنها من منافسة الأدب و الروايات و قددفعني إلى هذا التساؤل ما لاخظته من تطور و تدرج في الادب الياباني من المكتوب إلى القصص المصورة - المانجا- ثم الأنمي المسجل مرئيا.
حين خفف القطار من سرعته و نحن نقترب من محطة كيوتو لاحظنا أن قطار الطلقة حين يمر بنا - و نحن نقترب من التوقف- يهز قطارنا بسبب السرعة العالية جدا، بعد نزولنا من القطار نباشرة و في أثناء توجهتا لسلالم مغادرة منصة الانطلاق كنا قد عدنا مرة أخرى إلى موضوع المعنى من الحياة لدى الشعوب اللادينية، و قد ذكر صديقي الباحث بأن التعريفات لمصطلح (الانسان) هو أنه الكائن الذي يمكنه ان يتساءل عن الغاية من وجوده، فلا يوجد كائن معروف غيره يطرح هذا السؤال على نفسه، ثم ذكر بأن عالم الحيوانات الشهير دوكنز يرى بأن هذا سؤال غبي و أن الإنسان ليس ضروريا أن يكون لوجوده غاية، كذلك ذكر لي مقولة أحد المخرجين المشهورين بهولييود الذي قال بأن صناعة الأفلام تهدف إلى إيجاد معنى للحياة، و ربما كان صديقي يقصد أن هوليود تقوم بمعالجة مسألة البحث عن معنى للحياة عند الغرب.
من مركز الاستعلامات السياحي أخذنا خريطة المدينة و خطة مقترحة لزيارة ثلاثة من الأماكن السياحية في 5 ساعات، قررنا شراء التذكرة المفتوحة ليوم واحد و قد اخترنا تذكرة الحافلات بسبب وصولها بالقرب من الأماكن السياحية بعكس بطاقة المترو التي تتطلب الكثير من المشي من المحطات، كانت تكلفة التذكرة المفتوحة 600 ين للشخص (ريالين) و ركبنا الحافلة إلى وجهتنا الأولى و هي معبد kinkaku ji الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 600 عام و كان معبدا لأتباع ديانة الزن المنبثقة من البوذية و التي تركز على التأمل و سبر أغوار النفس، بعد عبورنا المدخل الرئيسي استوقفنا رجل و معه ثلاثة فتيان و الأربعة يلبسون ثيابا سوداء يابانية، قدم لنا نفسه و سألنا عن أسمائنا و موطننا، ظننا أنه معلم مع تلاميذه و لكن حين سألناه أخبرنا بأنهم أولاده و طلب منهم تقديم أنفسهم لنا، ثم التقط صورة لنا معهم، كانت انجليزيته ضعيفة و قلنا لعله أراد تعليمهم الآداب العامة أو طريقة تقديم أنفسهم بالإنجليزية، بعد تجولنا في الفناء الواسع جداً حول المعبد بأشجاره و مناظره الجميلة و التقاطنا لعشرات الصور، غادرنا المعبد و كان صديقي قد لاخظ زوجين روسيين تصحبهما مترجمة و مرشدة من بنات جنسهما - حسب استنتاجه طبعا- هذه الملاحظة قادت صديقي الباحث إلى الاستطراد في مدى البذخ الذي يمتاز به الروس و أنهم يسافرون بميزانية تبلغ أضعاف ما يحتاجه السفر العادي، كما قد يصل بهم الترف إلى حد ذفع المبالغ الطائلة لوكالات المرسيدس و غيرها مقابل أن تبيعهم طراز السيارات الذي سينزل إلى الأسواق بعد سنتين، كذلك استرسل في الحديث و وصل لوصف الكاريزنا ر قوة الشخصية التي تميز الرئيس الروسي بوتين و الذي يذكره بالشخصية القوية للاعب إبراهيموفيتش و الذي يمتلك ثقة كبيرة بالنفس لحد وصف نفسه بأنه السبب في شهرة بلاده.
بالخارج توقفنا لشراء الايسكريم من أحد الآلات - و اليابان تشتهر بالالات التي تبيع ليس فقط المرطبات بل كذلك كثير من السلع الأخرى أيضا لا أنسى أن أذكر ان الشاي الأخضر هو أشهر النكهات الصناعية بداءا من الايسكريم و انتهاء بقهوة ستار بوكس- كان هنالك طلاب مدارس خرجوا في فسحتهم و وقفوا ينظرون إلينا، بالحوار اقتربت ظالبتان من سائحة و تح ثتا معها ثم طلبتا التقاط صورة معها، في نفس الوقت كان الطلاب الذكور ما زالوا يتهامسون و يختلسون النظر الينا فخمنا أنهم قد اوكلوا بمهمة من المدرسة تتعلق بالسياحة أو بممارسة اللغة الإنجليزية.
بعد ذلك واجهنا ساعتين من الضياع في سعينا للوصول إلى استوديو كيوتو الشهير Toei Kyoto Studio فتنقلنا من حافلة إلى أخرى حتى وصلنا إلى أحد الضواحي البعيدة على أطراف المدينة، ثم اضطررنا للانتظار لما يقزب من نصف الساعة حتى تمر الحافلة فقررنا تبديل وجهتنا - التي تستوجب مشيا طويلاً من أقرب موقف للحافلات- و شددنا الرحال إلى قلعة Nijo و التي كانت يوما ما مقر الحكم الإمبراطوري، بعد أخذ التذاكر (600 للشخص) دخلنا إلى القلعة الكبيرة جدا بمناطقها الثلاثة و الحدائق الواسعة و قنوات المياه بداخلها، توجد تماثيل للحاشية الإمبراطورية حينذاك تجلس على الأرض بالطريقة اليابانية الشهيرة، القلعة محاطة بالمياه من جوانبها الأربعة و عندما تصعد السلالم لتعتلي الجدران المحيطة بالقلعة تبدو لك و كأنها جزيرة وسط الماء.
نظراً إلى أننا قد اخترنا حجز تذكرة العودة إلى طوكيو لتكون بنفس اليوم، لم نكن نملك الكثير من الوقت لذلك توجب علينا الإسراع إلى وجهتنا التالية و التي كانت غابات البامبو، أسرعنا المشي باتجاه محطة الحافلة التي دلنا عليها الشيخ جوجل حتى كادت سيقاننا أن تتفلق، و لكن ما إن وصلنا حتى تفاجأنا بأن الحافلة حمراء و لا تشملها التذكرة المفتوحة، وصلت للحافلة التالية بعد انتظار طال لننصدم بأنها حمراء كذلك، قررنا استخدام المترو حيث يمكن استخدام أحد خطوط شركة JR لتنزلنا قريبا من الغابة فاتجهنا إليه، و هنا وقعنا في الخطأ الثالث حيث ركبنا القطار السريع Express و لم ننتظر القطار الداخلي local لينتهي بنا المطاف مجدداً في أحد الضواحي البعيدة من كيوتو، نزلنا و سألنا الموظف عن منصة العودة فدلنا عليها كان وقت وصول القطار قريباً و لكن هذه المرة انتبهنا لحسن الحظ بأنه القطار السريع لذلك لم نركبه و انتظرنا وصول القطار الداخلي، و نظراً لأن الوقت قد بدأ يدركنا فقد قررنا العودة إلى طوكيو، و ذهبنا إلى شباك التذاكر حيث تتيح لنا بطاقة JRP تقديم موعد مغادرتنا و فعلا ركبنا أول قطار مغادر باتجاه طوكيو و التي بلغناها حوالي الساعة السابعة لنشهد نهاية أول يوم عمل في الاسبوع، حيث تجتاح أمواج من الأجساد البشرية قطارات القطار و المترو و تكتنر العربات بالخارجين من دواماتهم بعد يوم عمل ذي ساعات إضافية كالعادة، لقد شهدنا بأم أعيننا العبودية الحقيقية للرأسمالية في اليابان حيث ينتهي اليوم على العامل قرب وقت النوم، يقول صاحبي بأن اليابانيين لم يكن لهم خيار بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية إلا أن يكونوا أمة منتجة من العاملين تدفعهم لذلك عزة النفس الجريحة و أن ما حدث لهم من نهضة هو أمر طبيعي جدا.
من محطة شينجوكو توجهنا مباشرة إلى شيبويا و بالتحديد إلى مطعم mamo للشاورما حيث وجدنا البائع التركي مجدداً و تحدثنا إليه هذه المرة، لقد جاء إلى اليابان قبل 10 أشهر و هو متزوج من امرأة يابانية. في أثناء عودتنا و خروجنا من مخطة المترو و عندما كنا نقترب من الفندق انتبه صديقي الباحث أنه قد نسي هاتفه في طاولة الحساب بسوبرماركت دخلناه قبل دقائق، فرجعنا بسرعة تكاد تبلغ حد الركض و اتضح أن الحظ كان في جانبه إذ وحد هاتفه عند البائعة، شكرناها ثم عدنا إلى السكن لنباشر عملية النوم التي لا يمكن وصفها.
اليوم التاسع
في تمام التاسعة و النصف صباحا كنا في محطة شينجوكو حيث قمنا في شباك تذاكر JR بالسؤال عن القطار الذاهب إلى منطقة جبل فوجي - يسميه اليابانيون فوجي سان أي السيد فوجي - و هذه المرة حرصنا على عدم ارتكاب الأخطاء و التأكد من الوقت و رقم القطار و هو ما كان، و من مكاننا في المقعدين جنب النافذة أمكننا رؤية المزيد من جمال الطبيعة الياباني بينما كنا كالعادة نتكلم في شتى المواضيع لتزجية الوقت، و أذكر من بين تلك المواضيع حديث الباحث عن الحقيقة عن التردد الطبيعي، و هو أحد ألغاز الكون الكبري و الذي لا يمكن الجزم بالغاية من وجوده، فلكل جسم أو شيء أو شخص تردد طبيعي يصدر منه ناتج عن اتساق ذراته و جزيئاته بالطريقة التي تشكله و تعطيه مظهره، في التصميم الهندسي يحسب المهندسون ألف حساب للتردد الطبيعي لأن أي نظام سيتهاوي إذا ما تعرض لتدخل خارجي له نفس تردده.
في تمام الساعة 11:30 نزلنا في محطة أتسكي Otsuki و قمنا بشراء تذكر القطار المتوجه إلى كاواجوتشيكو - لا تصل قطارات JR إلى هناك- بمبلغ 1000 تقريبا للشخص، كانت المحطة صغيرة و تمكنا بسهولة من أن نجد القطار قديم الطراز و الذي جلس فيه الركاب على مقاعد متقابلة بالجانبين الممتدين للقطار، الأرضية الخشبية و الرسومات الكرتونية على السقف و الجدران تعطي الراكب إيحاء جميلا بزمن القطارات البخارية كما نراهازفي الأفلام و المسلسلات، لاحظنا وجود عدد من الأجانب بملابس و معدات التسلق، لم تكن مدة اقامتنا تسمح لنا بممارسة هذه الرياضة الاستكشافية التي نعشقها و نمارسها كثيرا في عمان، فقد كانت وجهتنا تقتصر فقط على كاواجوتشيكو و هي المنطقة السياحية الواقعة على المنبسط القريب من قاعدة فوجي بتلالها المرتفعة المطلة على البحيرات الجميلة، بعد تخزك القطار استئنفنا رحلتنا مقتربين من السيد فوجي (فوجي سان) حيث لاحظنا تغير البيئة و المناخ و التضاريس بل حتى ملامح وجوه الناس و الوانهم لتتعاون جميعها و تعطي إيحاء بالعلو و البرودة و الجمال الاستثنائي، استغرقت رحلة القطار ثاني ساعة أخرى تحدث فيها صاحبي عن الإشعاع الأرضي - بمعنى اختزان الأرض للطاقة الحرارية الشمسية- و الذي يقل بشكل كبير جدا في الجبال بسبب مساحتها الصغيرة مقارنة بالسهول و هو ما يسبب تدني درجات الحرارة في المناطق الجبلية، عند وصولنا إلى محطة كاواجوتشيكو أخذنا تذكرة مفتوحة ليوم واحد قيمتها 1500 ين للشخص - 5 ر. ع - تخولنا استخدام المسارات الخمسة للحافلات - الأحمر و الأخضر و الأزرق- و اتجهنا بالحافلة الحمراء مباشرة- باستدارة حول البحيرة - إلى النقطة التي سنعود منها بالتلفريك أو ropeway كما يسمونه و اشترينا تذكرة عودة بقيمة 800 ين للشخص من آلة بيع التذاكر ثم صعدنا قمة الجبل لنطل على بحيرة كاواجوتشيكو و مدينة الملاهي المحاذية لها، من سوء حظنا أن الجو كان مغيما و لم نتمكن من رؤية القمة البيضاء لجبل فوجي المقابل لنا إلا لفترات قصيرة ظهر فيها على استحياء و هو محاط بالغيوم، لاحظنا أن الكثير من أطفال المدارس يتوافدون إلى الأعلى بضجيجهم العذب، نزلنا بالتلفريك إلى محطة الحافلات و ركبنا الخط الأحمر مجدداً متجهين إلى نهاية الخط حيث المركز الحيوي و هو حدائق للازهار و الورود الجميلة على حافة البحيرة، في أثناء مشينا و تصويرنا للزهور الجميلة عاود السيد فوجي اطلالته من بين الغيوم فاغتنمنا الفرصة لاقتناص بعض الصور له، عدنا بعد ذلك لركوب الحافلة و اتجهنا إلى مطعم علاء الدين طمعا في تذرق الاكل الهندي و لكن أملنا خاب حين وجدناه مغلقا و سيعاود الافتتاح بعد ساعة، استقبلنا البحيرة التي تتلحف بالسماء الغيمة منذ يوم وصولنا و تناولنا بعض الخفائف التي اشتريناها من سوبرماركت قريب، أحسسنا بازدياد شدة البرد فانطلقنا نحو أقرب محطة للحافلات و لم نلبث طويلاً حتى عدنا إلى نقطة البداية عند محطة القطار، هممنا بركوب الخط الأخضر و لكن البرد الشديد اقنعنا بأن الوقت قد حان للعودة إلى طوكيو فقمنا بشراء تذكرة العودة إلى أكتسي ثم من هناك طلبنا تغيير قطار العودة و ركبناه بعد دقائق معدودة، أعطينا مقعدين منفصلين بسبب امتلاد المقاعد فجلست بقرب سيدة يابانية تضع كمامة على وجهها - و هو أمر شائع هنا لدواع صحية على ما يبدو- ثم امضيت الساعة التي يستغرقها القطار للوصول إلى طوكيو في كتابة المذكرات و تذكرت أحاديث ث الباحث عن الحقيقة صباحا و التي كان من بينها مقارنته بين المقاتلة الامريكية F35 القادرة على الاقلاع العمودي و التي تبلغ سرعتها 1.5 ماخ - مرة و نصف سرعة الصوت- في مقابل نظيرتها الروسية سوخوي 35 التي تبلغ سرعتها 3.5 ماخ.
عند وصولنا إلى محطة شينجوكو و نزولنا من محطة القطار باتجاه منصة المترو أصبحنا كنقطة في بحر متلاطم الأمواج من الأجساد البشرية، بعد تجاوز الساعة السابعة يكون الموظفون قد أنهوا ساعات عملهم الإضافية فتجد القطارات و المحطات و السلالم مزدحمة جداً، إنها العبودية الحديثة في أوضح تجلياتها حيث لم يبق سوى ساعة أو اثنتين على موعد النوم، أي أن خمسة أيام في الأسبوع يكاد يقضيها الياباني بين الدوام و النوم، أصحيح أن الظروف هي من أجبرت هذا الشعب على البذل و الإنتاج بهذا الشكل كما يرى صاحبي؟ أم أن الولاء و الانتماء للوطن هو الدافع لذلك؟
نزلنا في محطة Shun Okubo ثم اتجهنا إلى المطعم الهندي لنجد عبدالملك مجددا و يحدثنا عن حياته في عمان التي غادرها قبل 12 سنة و عن خطته للعودة إليها بعد 5 سنوات، دخل رجل هندي آخر و سلم علينا، أخبرنا أنه يعيش في اليابان منذ 25 سنة و أنه يملك شركة للشحن و التصدير إلى بلدان كثيرة من ضمنها دبي التي يشحن إليها السيارات، غادرنا عائدين إلى السكن و نحن نفكر في خيارات الأماكن التي سنزورها في اليوم الأخير لنا.
اليوم العاشر
كان الاستيقاظ من النوم في اليوم الأخير ثقيلاً جداً، رغم ساعات النوم الطويلة فلقد أحسست بالخدر في جميع أنحاء جسمدي، انتهت استعداداتنا للخروج و في اللحظات الأخيرة قررنا استبعاد ديزني لاند خوفاً من طوابير الانتظار الطويلة بالداخل، و قررنا زيارة منطقة Ueno المشهورة بالمتاحف و الحدائق، في الطريق إلى قطار المترو قلت لصاحبي بأن حب اليابانيين لصبغ شعرهم له علاقة بوجود هذه الظاهرة بكثرة في مسلسلات الأنمي و ليس مستبعدا أن يكون للشركات المصنعة للصبغات يد في ذلك، قال لي بأن لون بشرتهم لا يتنافر مع هذه الصبغات بعكس شعوب أخرى، كذلك لاحظت بأن كثيراً من تسريحات الشعر تتطابق مع ما نشاهده في الأنمي، نزلنا في محطة أوينو و اتجهنا مشيا إلى المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، استقبلنا نموذج لقطار بخاري قبل المدخل، دفعنا 640 ين لشراء تذكرة الدخول - للشخص الواحد- ثم انتقلنا من طابق إلى آخر لرؤية صالات العرض للاحافير و الحيوانات المحنطة ثم المجاهر و التلسكوبات و الساعات العتيقة، و مجسمات لعرض التنوع الحيواني و البيئي، كان المعرض يغص بطلاب المدارس من شتى المراحل، كان المبنى مخصصا لعرض تاريخ العلم في اليابان خصوصا، ثم انتقلنا إلى مبنى آخر ذي طوابق أكثر و يعرض للعلوم بشكل عام في أنحاء الكرة الأرضية، في الطابق الثالث تحت الأرض تم عرض أشهر العلماء و المخترعين اليابانيين و حائزي جوائز نوبل، في هذا المبنى لم نجد أي ترجمة بالإنجليزية رغم أن المحتوى العلمي و المجسمات و النماذج يبلغ عددها أضعاف ما في المبنى الأول، أحلى ما في الزيارة هو الرفيق الذي كان أشبه بالدليل الناطق بأسلوبه السلس في شرح مختلف النظريات العلمية كالمسارات البيضاوية للالكترونات و مدارات الكواكب و هي المسارات الناتجة من تداخل قوة الطرد المركزي مع اتجاه عزم الدوران، قضينا ما يقرب من الساعتين في المتحف قبل أن نغادره باتجاه حديقة أوينو العامة التي يطل عليها مبنى متحف طوكيو الوطني الذي لم تتح لنا فرصة زيارته، في ساحات الحديقة و تقاطعاتها انتشر الاستعراضيون بالآتهم و ألعابهم و قد تحلق حولهم الجمهور و لكن اللغة لم تسعفنا بطول الانتظار لمعرفة فحوى معظم تلك الاستعراضات، قمنا أيضاً بالتقاط بعض الصور بجانب تمثال هرقل في أخد ساحات الحديقة قبل أن نتجه إلى المحطة و قد قررنا أن نختم جولاتنا في ذلم اليوم الأخير بقليل من التسوق و شراء الهدايا البسيطة من شينجوكو قلب طوكيو النابض، و هو ما كان فعلاً و لكن بعد أن حجزنا قطار العودة بالغد و المتجه إلى مبنى مطار ناريتا الدولي.
بعد الصلاة و أخذ القيلولة في الفندق غادرنا لإلقاء النظرة الأخيرة في ربوع شينجوكو و توديع شوارعها المزدحمة، مررنا أولاً بأحد محلات بيع ال (هوت دوج) و هي أكلة يابانية شهيرة تتكون أساساً من جبن الموزريلا مع العجين يتم قليها في حوض من الزيت و تقديمها في حطبة لتتخذ شكل عود الذرة، تسوقنا و قمنا بشراء بعض الهدايا و أخذنا الشاورما الأخيرة من بلاد الساموراي ثم في طريق العودة صادفنا تجمعاً لبضعة شباب ياباني بأحد الأزقة مررنا بالقرب منهم و تجاهلت نظراتهم إلينا و نحن ننعطف باتجاه الشارع العام بينما أكد صاحبي بأنه لاحظهم يقتربون منا و نظراتهم مركزة علينا بشكل غير مريح، ذكرني ذلك بأحد سلاسل المانجا بمكتبة الفندق باسم HEAT و التي تجري أحداثها في العالم السفلي لشينجوكو حسب ما تقوله الويكيبيديا، لم أكن أتوقع يوماً أنني سأصل إلى الفناء الخلفي لأحد أشهر عصابات المافيا في العالم و هي الياكوزا اليابانية.